The most unkown... كما لو أنّ العالم مادة مظلمة

17 يونيو 2020
يتّخذ الوثائقي من عبور التخصّصات نهجاً في عرض الافكار(نتفليكس)
+ الخط -
انطلقت الرحلة من إيطاليا، من داخل كهف عميق مع عالمة الأحياء المجهرية جينيفر مكاليدي. نرى، في البداية، كم يبدو ضوء مصباح جينيفر صغيراً في ظلام إحدى كهوف "فراساسي"، ونسمعها تعبر عن حماستها بعد أن عثرت على كائنات نادرة في المياه الضحلة. من هنا، كانت هذه الكهوف مكانًا مثاليًا ليبدأ عندها فيلم The most unknown (الأكثر غموضاً) للمخرج إيان تشيني (على نتفليكس). في خطوات جينيفر الحذرة داخل ظلام الكهف، يتلخص موضوع الفيلم الأساسي: سعي البشر إلى الكشف عن المجهول.

نتعرف سريعًا إلى "المجهول" الذي تحاول جينيفر كشفه: أشكال متعرجة من مواد لزجة تشكّلت على جدار الكهف. تقول إننا "لا نعرف كيف تشكلت، فهي لا تزال لغزًا". لا يُعطنا الفيلم الكثير عن قصة هذه الأشكال، لذا ربما لا نفهم الحماسة التي شعرت بها جينيفر عندما رأتها. كُل ما عرفناه أنّنا، بدخولنا كهوف فراساسي، وجدنا أسئلة لم يجد لها العلم إجابات بعد. تقول جينيفر من داخل الكهف إننا كلما كسبنا معرفة جديدة، نصبح قادرين على الوقوف في مكان جديد ومنه "سنرى عجائب جديدة لم تكن ظاهرة لنا من قبل".

نتعرف أكثر إلى شخصية هذه العالمة وما تفعله لأجل حل الألغاز في تخصصها. نراها تسبح في ماء الكهف، وتتسلق الصخور. تبدو متواضعة لا تكترث كثيرًا بمظهر ثيابها. تجلس على الأرض وتنفض الغبار عن نعلها. تفعل كل ذلك بحماسة لا تختلف عن حماسة طفلة تمضي في لعبة لحل الألغاز ومتعة الاكتشاف. يستمر فيلم تشيني في جولة حول العالم نتتبع فيها سلسلة لقاءات بين تسعة علماء لم يفقدوا حماسة الطفولة، فيصف أحدهم فرحه باكتشاف الأشياء كفرح طفلٍ في صباح عيد الميلاد.

عند كل محطة في السلسلة، هنالك سؤالٌ مثير عن الزمن والوعي البشري وأشكال محتملة للحياة في الفضاء، وغيرها من المواضيع. لكن وقت الفيلم القصير (92 دقيقة)، لا يساعدنا على التعرف أكثر إلى الغموض في هذه المواضيع، ويركز بدلًا من ذلك على الرحلة والمحادثات العفوية بين العلماء.

نسافر مع جينيفر إلى ميلانو لنتعرف إلى عالم آخر من خلفية مختلفة، هو دافيد دانجيلو؛ فيزيائي يبحث في مجهول آخر، في ظلام لا نراه وهو ما يسميه الفيزيائيون بـ "المادة المظلمة". لأسباب علمية مهمة، يعتقد العلماء بوجود هذه المادة، رغم أنهم لم يرصدوها. حتمًا سيحتاج معظمنا إلى رسوم توضيحية ومؤثرات بصرية، كالتي نشاهدها في معظم الوثائقيات العلمية، لنكوّن فهمًا أوضح عن الموضوع، لكن تشيني يكتفي بنقل صور واقعية سريعة. نخسر معلومات مثيرة لم يأتِ الفيلم على ذكرها، لكننا نتعرف إلى شخصية دافيد المرحة داخل مختبره الواقع تحت جبل.


يخبرنا دافيد عن الهدف من اختيار هذا الموقع للاستفادة من صخور الجبل كدرع عملاقة تحجب الأشعة الكونية عن موقع المختبر، وهذا سيُساعده على التخلص من "ضوضاء" الأشعة التي من شأنها أن تُشتت بحثه عن "المادة المظلمة". يقول: "نحن هنا في صمت كوني... لا يمكنك سماع الأشعة الكونية هنا".

يعرج الفيلم على أهمية أماكن البحث وغرابتها في أكثر من محطة، منها ينابيع حارة جدّاً غرب الولايات المتحدة، لا يمكن للمرء إن دخلها أن يخرج منها حيًا. سنتوقع أنها خالية من الحياة، لنكتشف أن ذلك غير صحيح، وأنها تعج بكائنات ميكروبية. إذا كانت هذه البيئة القاسية جدًا في نظرنا تعج بالحياة، فهل توجد كائنات ميكروبية حيّة في بيئات "قاسية" في الفضاء؟ شخصية العلماء أنفسهم ومواقع مختبراتهم هي بحد ذاتها مثيرة للاهتمام كما هي، من دون الحاجة إلى مؤثرات أو مشاهد درامية.

ما يميز الفيلم أيضًا دمجه بين العلماء من خلفيات مختلفة، سنجدهم أحيانًا يبحثون عن أمور مشتركة بين تخصصاتهم، وهذا النهج العابر للتخصصات في العلوم يعيد إلى أذهاننا ما قاله عالم الفيزياء الشهير، ريتشارد فاينمان، عن تقسيم الكون إلى فيزياء وأحياء وجيولوجيا وفلك وعلمِ نفس وغيرها. يقول إن هذه التقسيمات ما هي إلا تقسيمات وضعناها نحن البشر بطريقة تُلائم "عقولنا الصغيرة"، وتساعدها على استيعاب الكون.

هذا ما نراه من خلال The Most Unknown مع كُل عالم نقف عنده، فكل منهم بارع في مجاله، لكنه لا يعرف الكثير عن مجال الآخر. "عقولنا صغيرة" أمام المجهول الواسع في الكون، في نفس الوقت هي جزء من هذا المجهول. فالأسئلة حول الوعي كانت حاضرة -أيضًا على عجل- في الفيلم. وتضمنت تجارب أجراها العلماء على بعضهم بعضاً. لعل أبرزها الاختبار الذي أجراه عالم الأعصاب أنيل سيث على الفيزيائي جون يي؛ إذ رأينا جون يي، صانع "أدق ساعة ذرية في العالم"، يفشل في تقدير الزمن الفعلي لطول مجموعة من الفيديوهات التي عُرضت عليه. أمّا لوري سناتوس؛ فتفضل دراسة الإدراك عند القرود على دراسة البشر؛ إذ تقول إنه من الصعب إجراء تجارب على البشر بسبب تعقيدات الثقافة والتربية، أمّا القرود، فهي سهلة للدراسة إذ تتصرف ببساطة كقرود.

‎بالرغم من هول مختبراتهم وقدراتهم على تسخير الطبيعة، يؤكد العلماء التسعة على مدى صغر المعرفة التي كسبوها أمام المجهول الكبير الذي ما زال يتسع أكثر كلما انكشف لهم جزء جديد منه. على الأغلب أن معظم "أبطال" هذا الوثائقي لن يشهدوا الاكتشافات التي يطمحون إليها خلال فترة حياتهم، إذ تبدو بعيدة المنال.

بالرغم من ذلك، حققوا الغرض الأساسي -الذي تحدث عنه فاينمان- من سعيهم وراء كشف المجهول، ألا وهو الاستمتاع بالرحلة نفسها، وهذه المتعة لا بد أنها ستتحقق لهم أيضًا أكثر من مرّة في المستقبل.

دلالات
المساهمون