10 أشهر بلا سيّارة

26 أكتوبر 2014
وما زلتُ بلا سيّارة (Getty)
+ الخط -
حين بعتُ سيّارتي في يناير/كانون الثاني الماضي، كنتُ أنوي شراء سيّارة جديدة خلال أيّام. وكنت أستصعب البقاء بلا سيّارة "طوال" هذه الأيّام المفترضة.

رحتُ أسأل إخوتي وأصدقائي وأقاربي، وأصدقاءهم وإخوتهم، عن نوع السيّارة الأفضل. ولم أكن أعرف أنّه سؤال يشبه فتح باب من أبواب الجحيم. وأنّه سيكلّفني البقاء ما يقارب عاماً كاملاً بلا سيّارة.

النصيحة الأولى التي سيتلقّاها باحثٌ عن سيّارة في لبنان هي: "مرسيدس أو بي. أمّ.". هكذا وبلا كثير عناء. مهما صَغُرَت الميزانية المرصودة أو كَبُرَت، يمكن أن تجد واحدة من هاتين السيارتين ألمانيتي الصنع بالمبلغ المتوافر بين يديك.

لكن لسبب أجهله كنتُ رافضاً الفكرة كليّاً. فهل يُعقل أنّه من بين عشرات شركات السيّارات حول العالم وحدها المرسيدس أو البي أمّ الأكثر كمالاً؟

قبلها، منذ عامي الـ18، في 2002، اشتريت بي. أمّ. موديل 1989، وطواط (تسميات لبنانية)، ثم بعتُها. واشتريتُ بعدها غولف موديل 1989 GTI، في 2006، ثم بعتُها، بعدما تعطلّ محرّكها. ثم اشتريتُ فيات 2000، في عام 2008، وبعتُها لأنّها أتعبتني. والسيّارة الأخيرة كانت فورد موديل 2003، اشتريتها في 2011 وبعتها رغبة منّي في شراء سيّارة جديدة، قبل 10 أشهر.

قبلها أيضاً قدتُ سيّارات كثيرة، لأبي وإخوتي وأصدقائي. قدتُ جي. أم. سي وشيروكّي، وبي. أمّ. موديل عام 2006، وداتسون وميتسوبيشي وشيفروليه، وغيرها كثير.

راح أصدقائي يسخرون من شرائي فيات وفورد: "سيّارات سيّئة"، قالوا لي، وبعضهم اعتبرها "أسوأ سيّارات في العالم". لكنّني، في رحلتي الأخيرة إلى إسطنبول، في مارس/آذار الفائت، لفتني أنّ 90 في المائة من السيّارات إما فورد أو فيات.

يمكن الاستنتاج أنّ إدمان اللبنانيين على المرسيدس والبي. أمّ. جعل، خلال عقود، قطع هذه السيّارات متوافرة بكثرة في السوق، وأن مصلّحي السيّارات باتوا يعرفون، عن ظهر قلب، أعطال موديلاتها الكثيرة.

وهذا الإدمان على "الفخامة" جعل مقتني السيّارات الأخرى، مثل فيات وفورد وأوبل ومازدا، أكثر عرضة للبحث المتكرّر عن قطع غيار سيّاراتهم، وللبحث عن اليد العاملة الماهرة القادرة على "فهم" هذه السيّارات.

اللافت أكثر أنّه في شرق بيروت، حيث تسكن أكثرية مسيحيّة، تجد "رغّيبة" لشراء الفيات والفورد وقيادتهما. وهذا ما لم أفهمه حتّى اللحظة. إذ تبيّن أنّ "المزاج المسيحي" في شراء السيّارات واقتنائها يختلف عن "المزاج المسلم".

أيضاً في ضاحية بيروت الجنوبية تكثر سيّارات بي. أمّ.، من موديلات الثمانينيّات والتسعينيّات، التي لا يزيد ثمن الواحدة منها عن ألفين أو ثلاثة آلاف دولار، وصولاً إلى أربعة آلاف دولار كحدّ أقصى. وهي مخصّصة لـ"التشفيط" و"التشبيح" على الفتيات في أحياء ضاحية بيروت الجنوبية الفقيرة. في حين أنّ شبّان الأحياء الفقيرة في ضواحي شرق بيروت المسيحيّة
يفضّلون السيّارات الرياضية الهادئة، حديثة المظهر والموديل، بالمبلغ نفسه. مثل فورد 2002 أو فيات 2004 أو حتّى 2006 بخمسة آلاف دولار.

وأيضاً فإنّ الأرمن الموجودين في منطقة برج حمّود شرق بيروت يشتهرون بحرفتهم في إصلاح أعطال السيّارات "الغريبة"، مثل الفيات والفورد والمازدا. وهم الأكثر مهارة في "الحدادة والبويا" وبيع قطع السيّارات. في حين أنّ منطقة الغبيري في الضاحية الجنوبية يشتهر أبناؤها بأنّهم يبيعون قطع السيّارات "المرغوبة" مثل المرسيدس والبي. أمّ. والتويوتا والنيسان...
ومن ينسى أنّ ظاهرة شراء السيّارات ذات الدفع الرباعي في الضاحية الجنوبية، بعد حرب يوليو/تموز 2006، وللتدليل على حجم الأموال التي ضخّتها إيران في شرايين الطائفة الشيعية مكافأة لها على الحرب، سُمِّيَت بـ"ظاهرة الـEnvoy". وهي فئة من فئات سيّارات GMC الشهيرة، واسمها "إنفوي". قبلها كان فقراء "حزب الله"، خلال الثمانينيّات والتسعينيّات، تقترن سمعتهم بسيّارة الفولفو. وكانت الوعود للمنتسبين هي: "شقّة مريحة، وفولفو سريعة، وامرأة مطيعة".

وتنتشر في مناطق الدروز سيّارات "النيسان"، لأنّ وكيلها تاريخيّاً هو الشركة الدرزية، شركة "رسامني يونس". في حين أنّ سيّارات "اللادا" كانت ترتبط بالشيوعيين في الثمانينيّات والتسعينيّات....

بين هذه "الطبقات" المذهبية والسياسية هناك طبقة متوسّطي الدخل، الذين يبحثون عن سيّارة لا تسرف في إحراق الوقود، وثمنها معقول، وأعطالها غير مكلفة. وهي فئة "الياباني"، بسيّاراتها المتنوّعة وموديلاتها المتعدّدة.

وبالطبع فعلى رأس "الهرم الميكانيكي" (على وزن "الهرم الغذائي") يتربّع الأثرياء، الذين ترى سيّاراتهم مركونة أمام أشهر المطاعم في بيروت وجبل لبنان. سيّارات "موديل السنة" أو السنة الفائتة في أبعد تقدير، ثمن الواحدة منها لا يقلّ عن 20 ألف دولار، ويصل إلى 100 ألف دولار وأكثر.

وإن أنسَ فلا أنسى نقاش "شِرْكِة أو مُستعمَل". فسيّارة نيسان موديل 2014 أو 2015 يصل ثمنها "جديدة" إلى 20 ألف دولار، من الشركة، بثمن مرسيدس 2007 مستعملة. والنقاش هنا يتراوح بين "ترتاح خمس سنوات إذا كانت السيّارة جديدة، فلا أعطال ولا من يحزنون"، وبين "حين تدير المحرّك خارج الشركة ينخفض ثمنها من 20 ألفاً إلى 15 ألفاً، وبعد شهر لا يمكن بيعها بأكثر من 13، لكنّ المرسيدس، أو البي أمّ، تحتفظ بثمنها سنوات".

هذه النقاشات أخذت منّي 10 أشهر قضيتها في سيّارات الأجرة، أسأل سائقيها وركّابها عن آرائهم، وبعد كلّ جواب أزداد حيرة وتردّداً. وفي كلّ مرّة أقرّر شراء سيّارة أكتشف أنّ معظم السيارات التي يستوردها تجّار لبنانيون من أوروبا وأميركا تكون "ممنوعة من السير" في بلد المنشأ بسبب حوادث سير خطيرة تعرّضت لها. فيشتريها لبنانيون ويصلّحونها ويصدّرونها إلى لبنان حيث يبيعها شركاؤهم. وهذا جعلني أتردّد أكثر وأكثر.

10 أشهر بلا سيّارة. والسيّارة في لبنان هي الهمّ الثاني بعد المنزل. كلفتها مرتفعة، وجمركها يساوي ثمنها، وقد يكون الوقود في لبنان هو الأغلى بين الدول العربية.
صارت ثقافتي عن السيّارات عملاقة، لكنّني ما زلتُ بلا سيّارة. ​
المساهمون