فن الواو :غناء الصعيد "الجواني"

04 مارس 2016
مصريون في صعيد "قنا" حيث نشأ فن الواو (Getty)
+ الخط -
عرف صعيد مصر الجوّاني لوناً خاصاً من الشعر الشعبي والغناء يسمى "فن الواو" أو "المربعات" أو "الرباعي". يقال إن بدايات هذا الفن كانت في أيام حكم المماليك، في فترة نفوذهم الواسع في معظم أيام العثمانيين، حيث اقتضت الحاجة لتبادل رسائل سياسية مكثفة الدلالة عبر لعبة "التورية" البلاغية، التي تساعد في تبرئة الشاعر الشعبي والمغني الجوال من تهمة معارضة السلطة السياسية. وترتبط نشأة هذا الفن تاريخيّاً بمحافظة قنا، التي انطلق منها إلى باقي مناطق الصعيد المصري.

يسمّى هذا الفن بـ "الواو"، نظراً، لأن الراوي، أي القوّال، كان دائماً ما يبدأ إنشاده بعبارة: "وقال الشاعر". كما أن كثرة استخدام حرف الواو للربط بين الفقرات جعلت منه سِمَةً مميزة أطلقوها عليه. وهي عبارة عن أربعة شطور بالعامية الصعيدية (عادة)، تتفق فيها قافيتا الشطرين الأول والثالث، وقافيتا الثاني والربع. كما أن المُحسِّن البديعي، ممثلاً في الجناس الناقص أو التام، يمثّلُ سمةً عامّة في القافية. مثل قول الراوي: "طبيب الجرايح/ "قُومْ اِلْحَق/ وهات لي الدوا اللي يُوافقْ / فيه ناسْ/ كتير بتعرفْ الحقّ/ ولاجلْ الضَّرورة تِوَافِق".

ومن الناحية الموضوعية؛ بدأت المربعات بوصفها فناً غنائياً شعبياً، ذا طابعٍ سياسي معارض للسلطة المستبدة، فتوارث المصريون منذ ذلك التاريخ المربع المشهور: "ولا بد من يوم معلوم/ تترد فيه المظالم. أبيض على كل مظلوم/ أسود على كل ظالم". بعد ذلك، تنوعت أغراضه إلى الغزل والفخر والمدح. وتمثل ما يسمّى بـ "الحكمة الشعرية" المظلة العامة لجميع الأغاني. كقولهم: "أوصِيك لا تعاشرْ الدّون/ ولا تكلمه بالاشتراحة. تكلمه الكلام موزون/ يجدد معاك القباحة". (والاشتراحة: أي تتبسط معه في الكلام). وكذلك غناء بعضهم: "إوعى تقول للنـدل يا عَـْم/ وان كان على السِّرْجِ راكب. ولا حد خالي من الهمْ/ حتى قلوع المـراكِبْ". ونظراً لأنّه فنّ شعبي خالص ينتمي لمجتمع فقير مهموم بالأعباء السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ تسربت الروح الحزينة لتلك الأغاني الموروثة، لذا أقبل عليها المهمشون حِفظاً وترنماً. مثل قولهم: "لا أنا من الهم مهموم/ لا للشرور عُدْت بايع/ أضْحَكْ إذا كُنْت مِهْمُوم/ والقلْبِ كلًّه وَجَايع". ومن الغزل الذي تغنّى به الروّاة: "أنا اللي حابَّك وعَاشِق/ ويُوماتِي/مَشيّلني هّمّك/ وسهمك فِ القلب راشق/ وأنت ياسيدي ولا همك".


وهو فن شفاهي من ناحية أخرى، تناقلته الأجيال حفظاً لا كتابة، ولم يعرف مؤلّفه الأوّل. وإن كان الباحثون في الأدب الشعبي، اعتادوا أن ينسبوا تلك المربعات لشاعرٍ قديمٍ مجهول يدعى "ابن عروس"، وهو شخصيّة مُخْتَلف حول وجودها من عدمه. إذ يزعمون أنه ولد سنة 1780م، وبأنَّه كان لصاً وقاطع طريق، ثم تاب وصار صالحاً، وشاعراً حكيماً، ولكن هذا كلام يبقى في إطار القيل والقال.

جمع بعض الناسخين مجموعة من المربعات، تصل إلى 74 مربعاً في ديوان؛ وكُتِبَ على غلافه "ديوان أحمد ابن عروس"!. الأمر الذي أسهم في تثبيت فكرة "ابن عروس" في الأذهان، وهو ما انتقده الشاعر الكبير، عبد الرحمن الأبنودي، واعتبره افتراء على الأدب الشعبي. حين يذكر الأبنودي بأنَّه عاش في الصعيد زمناً طويلاً، ولم يسمع أحداً من القوّالين ينسب الأشعار لابن عروس!، وأن لغة هذا الديوان لا تنتمي إلى صعيد مصر، بل إنها أقرب إلى لغة أهل شمال مصر!. كما وصف الديوان بأنه فقير. وبالتالي قام الأبنودي بتفنيد مقولة بأنَّ "ابن عروس" هو مؤسس فن الواو.


ولغة، فن الواو، السائدة في الجنوب مغرقة في المحلية، لدرجة أن بعض أشعارها لا يفهمها من هم خارج المحيط الصعيدي، إلا بعد الشرح والتفسير. تفنن العازفون والقوّالون في تلحين المربعات، وتوزيعها على الآلات الموسيقية الشعبية كالربابة والناي والمزمار البلدي والرق والدربكة وغيرها، وذلك مع قلة التصرّف والإغراق في دقة الموسيقى. ويظل، فن الواو، إلى جانب المدائح والسير الشعبية فنَّ المقاهي والساحات والموالد، التي تحظى باهتمام كبير من أهل الصعيد العاشقين للسماع والطرب والموسيقى والكلام الموزون.

إقرأ أيضاً:العربجي المصري

من أشهر منشدي المربعات، خضرة محمد خضر، وزين محمود، والريس متقال، وأبو رسلان، وشوقي القناوي، وسيد الضوي وآخرون. أما الرواة (القوالون) الذين لا يزالون يحملون أمانة هذا التراث فهم كثيرون، وينتشرون في أماكن متعددة في قنا، ويحفظ بعضهم ما لا يحفظه غيره مثل محمد حسين بدوي (قرية بني برزة)، وثروت شوقي الديري (قرية بخانس)، ومحمد البربري أحمد (قرية الشرقي سمهود)، ومحمد اليمني (قرية الدرب)، وأحمد عمارة الشريف (قرية المخادمة)، ومما أنشده بعضهم: أنا اللي فراقك رجفْني/ وجبت القلم والمحابر/ مين علم النوح جفْني/ غير ساكنين المقابر".


ونظراً لجماهيرية هذا الفن، فقد اهتم العديد من شعراء الصعيد المعاصرين بالنسج على منواله، وتقديم إبداعات جديدة، في ما سمي بفن الواو الحديث، ومن أشهرهم، قديماً، الشاعر علي النابي، وحديثاً، عبد الستار سليم وعبده الشنهوري الذي يلقبونه بـ "ملك الواو"، وهو صاحب عملية جمع ودراسة مميزة بلغت أربعة مجلدات. ومن أمثلة المعالجات الحديثة في المربعات، ما ذكره، حسين السوهاجي، معلقاً على واقعة ضرب أحد الصحافيين العراقيين لجورج بوش بالحذاء أثناء مؤتمر صحافي: "أنا عندي عِمّه وطربوش/ من عصر جدّي ف زمانه/ من جزمه واحدة طار بوش/ وجه أوباما مكانه". وعن بعض المجازر الصهيونية في الأراضي الفلسطينية قال: "الدّم سايل في غزّه/ فيضانه غطّى الأراضي/ وعَرَبْنا قاعدين ف غرزة/ والكل شايف وراضي".


ومؤخَّراً، اتّجه عددٌ من الشباب المطربين إلى غناء المربعات التي تنتمي إلى فن الواو في إطار العودة إلى التراث، مثل باسم وديع ودينا مسعود ومحمد القصيفي وفرقة الطنبورة وفرقة الورشة المصرية وغيرهم.

إقرأ أيضاً:أغاني السمسميّة: المحبّة للمرح والرقص
دلالات
المساهمون