وجوه سوريّة في إشبيلية

14 سبتمبر 2015
مناف انديوي في المعرض (العربي الجديد)
+ الخط -
ينقل روحه بخفة على الورق، يعلقها بين الخطوط وظلها، ويقول ما قد لا نستطيع نحن أن نقول، هكذا هو الرسام دائماً، فكيف إذا كانت هذه الروح قادمة من بلاد هوت شرفاتها على ظلها، وعلى أرواح الأطفال تحتها وعلى أرواح ألعابهم الخائفة. روح مثقوبة و مكسورة، لكنها أيضاً روح شغوفة بالحياة واثقة بالفن، عنيدة ووثابة حساسة ونقية تملك يدا قادرة على إعادة إنتاج كل ما في داخلها مرة ثانية على الورق، كل هذا ستحسه تماما، وأنت هنا في إشبيلية واقفا أمام معرض شاب سوري لاجئ، جاء إسبانيا ولم يكمل بعد السابعة عشرة من عمره، إنه مناف انديوي الذي جاء هاربا من طائرات تقصف الحياة في دمشق، ومن رايات سوداء تنخر الإنسان فيه، بعد انتظار سنة مع أبيه في سورية استطاعت أمه أن تلم له شملا، لعله يحافظ على اللون في دمه، و لعله يخبر العالم من هنا ما الذي تركه هناك، وإلى أية حضارة هو ينتمي، وكيف يستطيع الفن أن ينتصر.
في مدينة تسمى كارمونا؛ وهي مدينة تابعة لمدينة إشبيلية الساحرة، يقيم بيت الثقافة معرضاً سنوياً يضم عدداً كبيراً من رسامي إسبانيا، وحين شاهد مدير هذا المعرض لوحات الشاب مناف الذي وصل إسبانيا منذ ثلاثة أشهر على جوال أحد أصدقائه دعاه فورا للمشاركة بهذا المعرض، و فعلا فقد شاركت ثماني لوحات تحكي الوجع السوري كما تحكي لون الحياة الصارخ فيها.
افتتح المعرض في يوم الإثنين الماضي، ويستمر حتى السادس عشر من الشهر الحالي بحضور عدد كبير من المهتمين، وقد استطاعت لوحات مناف أن تسجن الأعين أمامها، واستطاعت الوجوه السورية التي سكنت لوحات مناف أن تحاكي كل الوجوه القادمة للمعرض، وأن تصل منها إلى القلوب، لم يصدق الموجودون عمر رسام هذه اللوحات، وحين شاهدوه كان سؤالهم الدائم هل أنت فعلا من رسم هذه اللوحات؟ وهل أنت فعلا قادم من تلك البلاد التي يسودها الموت وقادر على إنتاج الحياة مرة أخرى هكذا؟ ولماذا كل هذا القهر في عيون هذه الوجوه؟
جاءت كاميرا التلفزيون وصورت اللوحات، ورحبت بالرسام السوري، وسألته ما الذي ينقصه؟ قال "لا أخاف من ظروف الحياة السيئة للاجئين السوريين في إسبانيا، لا أخاف من القادم، أنا أثق بالحياة، لقد أكلت الحرب خالي وابن عمي وعددا من أصدقائي، كل ما أريده أن ينتبه هذا العالم الأعمى لما يحصل في بلدي، وأن يوقف هذه المهزلة". إسبانيا التي عرفت فرانكو وعرفت الحرب الأهلية، كانت تشع من عيون الحاضرين، لكن عيون مناف كانت تنظر بعيداً، ولا ترى إلا الذين تركهم هناك. وحين سألوه ما الذي لم ترسمه بعد؟ قال صوت أب وجد ابنه تحت الركام، وصوت ألعابه تنده عليه، وصوت قلبي حين رحلت أمي، وحين اعتقلوا أبي وحين كنت أمر على الحواجز كي أصل البيت، ما أريد أن أرسمه هو وجه عاشقة وجسدها، ولكني لم أعد قادرا إلا على رسم العيون مذ قتلوا عيون خالي في أرضه دون ذنب، ومذ تغيرت عيون أمي تغيرت كثيرا، لوحات مناف لم تزل معلقة هنا في بيت الثقافة في كارمونا ومدير المعرض السيد كابايو آرتي، يقول إن مدير بلدية كارمونا يطلب من مناف أن يقيم معرضا ثانيا له وحده، لأن الناس لم تكن تعرف ما الذي يجري في سورية؛ وهي الآن تريد أن ترى اللوحات وأن تعرف، مناف يوافق لكنه يقول للسيد كابايو إن آلاف الأطفال ماتوا في سورية، وحده الطفل الذي لعب مع البحر لعبة الحياة والموت، ففاز البحر ورماه على شواطئ تركيا جعل هذا العالم يتحسس قلبه، وكم كنت أتمنى أن يشاركني في هذا المعرض أصدقائي الذين كانوا يدرسون معي في معهد الرسم، لقد كانوا يرسمون أفضل مني، لكنهم الآن تحت التراب.

اقرأ أيضاً: زياد غرسة يبحر بمستمعيه إلى الأندلس
المساهمون