تونس: الانفتاح الإعلامي لا يخفي الأزمة

08 فبراير 2019
اعتصم صحافيو تونس للمطالبة بحقوقهم (شادلي بن إبراهيم/NurPhoto)
+ الخط -
لو سألت المتابعين المحليين عن أبرز نتائج ثورة الياسمين عام 2011، لكانت إجاباتهم واحدة: انفتاح إعلامي غير مسبوق وحرية صحافة لم تعرفها تونس طيلة تاريخها. 
بتلك الكلمات أيضاً، يصف المدير التنفيذي للنقابة الوطنية للصحافيين التونسيين، فاهم بوكدوس، السنوات الثماني التي تلت الثورة التونسية. ويقول في حديث لـ"العربي الجديد": "طفرة إعلامية حقيقية أسس لها دستور تقدمي وقوانين تنافس غيرها حتى في البلدان الإسكندنافية، على غرار القانون الأساسي المتعلق بالنفاذ إلى المعلومة، وأوجدت أرقى هيئات التعديل والتعديل الذاتي، وأوحت كل المؤشرات أننا لا نعيش ربيعاً عربياً فقط بل ربيعاً عالمياً".
انفتاح وحرية صحافة يشهد بها الجميع وتؤكدها الأرقام أيضاً. فالمشهد الإعلامي التونسي اليوم، وبحسب آخر الإحصائيات، يتشكل من 75 مطبوعة ورقيّة بين يوميّة وأسبوعيّة وشهريّة، و72 صحيفة إلكترونية و44 محطة إذاعية و17 قناة تلفزيونية. الأرقام لا تكذب، لكنّها تخفي بعض الحقائق عن وضعية هذه المؤسسات الإعلامية وحالتها المالية.
إذ تشهد الصحافة الورقية أزمةً ماليةً كبيرةً، كان من نتائجها تراجع عدد المطبوعات من 255 عام 2010 إلى 75 عام 2019. ويُفسّر العاملون في المجال الإعلامي هذا التراجع بضعف المردود المادي. ومن بين هؤلاء رئيس جمعية مديري الصحف في تونس، الطيب الزهار، والذي يُشير إلى ضعف المردودية المالية للصحف نتيجة تراجع عدد القراء وغياب هيكل حكومي يتولى توزيع الإعلانات التجارية الرسمية بصفة عادلة، ووفقاً لمقاييس الجودة واستمرارية الصدور.
دفعت هذه الوضعيّة بالعديد من الصحف التونسية إلى تسريح العاملين فيها، مثل دار "سنيب لابراس"، أو الإغلاق، ومنها صحيفتا "التونسية" و"الصريح" اليوميّتان، وصحف أسبوعية منها "أخبار الجمهورية" و"الأولى التونسية" وغيرها من المؤسسات التي لم تنجح في الصمود أمام أزمة مالية خانقة. وهو ما تسبب في إحالة الكثير من العاملين في هذه الصحف إلى البطالة الإجبارية، كما دفع أصحاب بعض الصحف إلى خوض إضرابات جوع وحشية، مثلما فعل صاحب صحيفة "الأولى التونسية"، نبيل جريدات، وهي أول صحيفة تمّ تأسيسها بعد الثورة التونسية. إذ وجد جريدات نفسه محاصراً بالديون، وهو ما دفعه إلى توجيه نداء استغاثة علّه يجد مخرجاً من الأزمة التي يتخبط فيها، لكن من دون جدوى، ليضطر إلى إغلاق الصحيفة بعدما تكبد خسائر مالية كبيرة.



ويُرجع البعض جزءاً من أزمة الصحافة الورقية إلى الطفرة التي عرفتها الصحف الإلكترونية بعد الثورة التونسية. فبعدما كانت المواقع الإلكترونية لا تتجاوز العشرة عام 2010 أصبحت عام 2019 تبلغ 72 موقعاً. إلا أنّ هذا العدد، وفقاً للمختصين، لا يعكس حقيقة هذا المجال. فعدد الصحف الإلكترونية المهيكلة بشكل اقتصادي يحترم خصوصيات العمل الإعلامي لا يتجاوز العشرين. أما البقية، فهي مجرد اجتهادات فردية لبعض الإعلاميين، وهي أقرب إلى المدونات الشخصية منها إلى مؤسسات إعلامية، رغم أن نصيب هذه الصحف الإلكترونية من الحقيبة المالية للإعلانات التجارية المقدرة يما يناهز 250 مليون دينار تونسي (حوالي 90 مليون دولار أميركي) ارتفع ليصل إلى حوالي 14 مليون دينار تونسي (حوالي 5 ملايين دولار أميركي).
لكنّ هذه الصحف الإلكترونية، على تعددها، تطرح علامات استفهام في الأوساط الإعلامية التونسية. وهو ما دفع نقيب الصحافيين التونسيين، ناجي البغوري، للتساؤل حول تمويل بعض المؤسسات الإعلامية، في ظل الحديث عن مال سياسي أو مال فاسد قد يكون اخترق الجسم الإعلامي التونسي وأصبح يوجه بعض اختياراته التحريرية.
المال الفاسد، مسألةٌ مطروحة في القطاع السمعي البصري أيضاً. فرغم أنّ عدد القنوات التلفزيونية عرف نقلة كمية غير مسبوقة، إذ كان لا يتجاوز أربع قنوات عام 2010، هما قناتان رسميتان وقناتان خاصتان (حنبعل تي في ونسمة تي في)، أصبح الآن 17 قناة تلفزيونية. إلا أن هذه القنوات، باستثناء القنوات الرسمية الممولة من الحكومة التونسية، تطرح مسألة تمويلها أكثر من سؤال. فبعضها، رغم أنّه يبث منذ سبع سنوات، لكنّه يفتقر للإعلانات التجارية وهو ما يجعل مسألة تمويله مثار تساؤل، علماً أنّ المختصين في مجال اقتصاد وسائل الإعلام يؤكدون أن استمرارية أي قناة تلفزيونية في تونس تستدعي في أدنى المستويات ميزانية سنوية تقدر بخمسة ملايين دينار تونسي (2.2 مليون دولار أميركي).
إضافةً إلى ذلك، تحتكر قناتان تلفزيونيتان هما قناة "الحوار التونسي" و"نسمة تي في" المراتب الخمس الأولى في نسب المشاهدة، وفقاً لإحصائيات شهر يناير/ كانون الثاني 2019 الذي أعدته مؤسسة "سيغما كونساي" لسبر الآراء وقياس نسب الاستماع والمشاهدة. فقناة "الحوار التونسي" تحتل برامجها: "مع علاء"، وهو برنامج اجتماعي، المرتبة الأولى في نسب المشاهدة بحوالي 1.807 مليون مشاهد، ثمّ برنامج "فكرة سامي الفهري" المرتبة الثالثة بعدد مشاهدين يقدر بـ1.578 مليون مشاهد، فبرنامج "الحقائق الأربع" يحتل المرتبة الرابعة بـ1.557 مليون مشاهد، وبرنامج "أمور جدية" يحتل المرتبة الخامسة بعدد مشاهدين يقدر بـ1.555 مليون مشاهد. أما قناة "نسمة تي في" فقد احتل المسلسل التركي الذي دبلجته إلى اللهجة التونسية "الحب اللي كواني" المرتبة الثانية بـ1.732 مليون مشاهد. هذه المعطيات تجعل القناتين تحتكران النصيب الأكبر من الحقيبة المالية المخصصة للإعلانات التجارية بمبلغ يقدر بحوالي 160 مليون دينار تونسي (ما يعادل 60 مليون دولار أميركي تقريباً).




إلا أنّ بقية القنوات التلفزيونية، الخمس عشرة، لا تحظى بنسب مشاهدة عالية. إذ تحتلّ النشرة الرئيسية للأنباء بالقناة الأولى بالتلفزيون الرسمي المرتبة السادسة في البرامج الأكثر مشاهدة بـ1.312 مليون مشاهد. أما القنوات الخاصة الأخرى فتحظى بنسب مشاهدة ضعيفة، وهو ما دفع البعض منها إلى الاستنجاد بإعلاميين من الصف الثاني. كما أن بعضها يكتفي ببث الأغاني والأفلام القديمة من "يوتيوب"، بينما اختار بعضها الآخر الإغلاق، مثل قناة "فارست تي في"، فيما تمّت الخصخصة (التفويت) في بعضها الآخر، مثل قناة "حنبعل تي في".
المحطات الإذاعية التونسية عرفت هي الأخرى نقلةً كمية كبيرة، فلم يكن عددها يتجاوز قبل الثورة 14 محطة إذاعية، منها تسع محطات رسمية، لتصبح الآن 44 محطة إذاعية، أغلبها غير ربحية (جمعياتية). أما بخصوص المحطات الإذاعية الخاصة، فتحتكر إذاعة "موزاييك أف أم" المرتبة الأولى من حيث نسب الاستماع، تليها إذاعة "الزيتونة للقرآن الكريم" وإذاعة "جوهرة أف أم" وإذاعة "شمس أف أم". إذ تحتكر هذه الإذاعات النسبة الأكبر من الاستماع والنسبة الأكبر من الإعلانات التجارية المخصصة للمحطات الإذاعية المقدّر حجمها المالي الإجمالي سنة 2019 بما يعادل 36 مليون دينار تونسي (حوالي 14 مليون دولار أميركي)، يذهب النصيب الأكبر منها لإذاعة "موزاييك أف أم". في حين تعاني الإذاعات الأخرى، باستثناء الإذاعات الرسمية الممولة من الحكومة التونسية، صعوباتٍ ماليّة كبرى دفعت بعضها إلى الإغلاق، مثل إذاعة "الحرية أف أم" وإذاعة "كلمة أف أم" وإذاعة "أوازيس أف أم". أما الإذاعات الجمعياتية فتكتفي بالحد الأدنى من البرمجة ويؤثث برامجها إعلاميون غير محترفين جلّهم من الهواة أو من الناشطين في المجتمع المدني.
الإعلام التونسي الذي عرف تحولات كبرى بعد الثورة التونسية، لعل أهمها ارتفاع هامش الحرية، تبقى محدودية سوق الإعلانات التجارية التونسية العائق الأكبر أمام تطوره، من حيث جودة البرامج ومنشوراته. كما أن هذا العائق قد يكون مدخلاً للمال السياسي والفاسد حتى تحافظ هذه المؤسسات على استمراريتها، لكنّها، في المقابل، تفقد استقلاليتها.