عمال معاصر الخمور في المغرب.. فقرٌ "مُركّز"

28 أكتوبر 2014
مغربيّة تعمل في الكروم (فرانس برس)
+ الخط -

على بعد 250 كيلومترا من الرباط تقع قرية "كانطيرو" وسط المغرب، بيوت أهلها العشوائية، لا تبدو متناسقة مع أكبر معاصر الخمور الفاخرة المجاورة لها، ثمن زجاجة خمر واحدة تنتجها المعصرة يزيد على كامل أجرعامل من أبناء القرية التي لا تتوفر لها كل خدمات المياه والكهرباء والبنية التحتية في حين يتوفر ذلك للمعصرة.

"تنتج المعصرة الموجودة في كانطيرو 30 مليون قنينة في السنة، وعادة ما تخرج سيارات فارهة من بابها الرئيسي بالإضافة إلى حافلات نقل المستخدمين، في حين لا نجد نحن أي وسيلة نقل إلى أي مكان ونضطر، نحن أبناء القرية، إلى المشي على الأقدام مسافات طويلة"، يقول محمد - ثلاثيني من أبناء القرية - يعمل في المعصرة المذكورة منذ سنوات.

يتابع محمد في حديثه مع "العربي الجديد": "أنا المعيل الوحيد لأسرتي ولم أجد أمامي أي فرصة للعمل سوى الالتحاق بهذه المعصرة في ظل أن قريتنا تعاني الإهمال والتهميش، فالمدرسة والمستشفى والخدمات العمومية بعيدة عن قريتنا أكثر من أربعة كيلومترات، أتقاضى ثلاثة آلاف درهم شهريا (359 دولاراً) وهو ما يوافق الحد الأدنى للأجر في المغرب، في حين أن ثمن بعض قناني الخمر التي ننتجها تفوق هذه القيمة (بعضها يبلغ أربعة آلاف درهم أي ما يوازي 479 دولاراً)".

سعيد شاب آخر من القرية نفسها توقف مؤخرا عن العمل بالمعمل، تبنى نفس تبريرات محمد حول دوافع العمل المجحفة، إلا أنه اعترف لـ"العربي الجديد"، بأن الشباب العاملين في المعصرة يشربون الخمر، خصوصا أنه في المتناول، لكن الخوف من الإدمان دفعه للتوقف عن العمل.

"بعض زملائي أدمنوا تناول الخمر حتى صاروا ينفقون أكثر من أجرهم عليه" يضيف سعيد، يصمت هنيهة ليعود ويقول "العديد من العمال يشتغلون بعقود عمل نصف سنوية، غير مثبتين لأن القائمين على المصنع يرفضون تعيينهم ودفع التأمينات المقررة عليهم، لذلك كل ستة أشهر ينتظرون إما تجديد عقودهم أو الاستغناء عنهم، ما يجعلهم يعيشون في رعب دائم".

غير بعيد من مدخل القرية يقف حارس المعمل يبدو المرض والفقر على وجهه النحيل توجهنا إليه وأثناء حديثنا معه تقدم شاب ليسأله عن عمله في المعصرة، فيرد الحارس" يمكن أن تترك سيرتك الذاتية لدي وسأرسلها إلى الإدارة، ومن الأفضل إن كنت تعرف أحداً هنا يمكن أن يتوسط لك".

يصمت الحارس قليلا ويغير نبرة صوته في حديثه مع الشاب، ويقول"بصراحة أجرة لا أعرف أين تذهب، بمجرد الحصول عليها، تذهب أدراج الرياح".

قاطعه الشاب "ولكن لماذا تعمل هنا؟" فردّ الحارس رداً لا يختلف عن سابقيه "لم أجد بديلا، وإذا وجدته لن أبقى هنا لحظة".

خمر وفقر وقهر

غير بعيد عن هذه القرية توجد معصرة أخرى، إذ اختار المستثمرون في قطاع الخمور القرى القريبة من مدينة مكناس، والتي تقع شمال المملكة على بعد 140 كم شرق العاصمة المغربية الرباط، لخصوبة أرضها ووفرة مائها ومناسبتها لزراعة الكروم، بالإضافة إلى الميزة الأكبر المتمثلة في فقر أهلها.

يخرج حميد من قريته الصغيرة المسماة "جيري" متوجها إلى معصرة الخمور على بعد ثلاثة كيلومترات في سيناريو متكرر يوميا، يروي قصة الشاب الذي تجاوز عقده الرابع ولم يتزوج بعد، يخاف ألا يجد ما يأكله إن تخلى عن العمل بالرغم من إدمانه "الخمر المتوفرة" أمامه في المعمل ليل نهار.

قصة حميد مثال للعديد من الحكايات الأخرى في هذه القرية المحاطة بطبيعة خلابة وزراعات مختلفة وعيون جارية، فهذا ينفق على ثلاثة أطفال ويخاف من مكر الحياة، وتلك امرأة تصارع الزمن ولا تجدّ ما تسد به رمقها، وبين هذا وتلك العشرات من أهل المدينة يعملون في المعصرة التي رأت النور عام 2006 أو يعملون في الضيعات المجاورة لها والمخصصة لزراعة العنب الموجه لصناعة الخمور".

مسؤولو المعصرة يتوجسون خيفة من الاتصالات التي تطلب منهم عقد لقاءات صحافية، وبعد محاولات كثيرة من أجل اللقاء بأحدهم، التقت "العربي الجديد" مسؤولاً عن العمال قال "نعمل ثماني ساعات في هذا المعمل المسمى "ليدودومين" والذي يسيره أجنبي فرنسي الجنسية، يملك المعمل مغربي، والأجر نحو 1600 درهم، ما يعد نصف الحد الأدنى للأجور في المغرب، وفقا للقانون، وهو ما يتقاضاه 28 عاملاً وعاملة داخل المعمل، في حين أن 36 آخرين يعملون في الضيعات بشكل رسمي ولكن بأجر أكثر، في الوقت الذي يبلغ عدد العمال الموسميين 260 عاملاً في هذه الأراضي المكتراة من الدولة بثمن بخس، ما يعظّم من أرباح صاحب المصنع لكن الامر لا ينعكس علينا في شيء".

مسؤول نقابي بالشركة – رفض ذكر اسمه - انتقد ضعف أجور العمال، مقابل العمل الشاق، بالإضافة إلى عدم استفادة الجميع من التأمين الصحي بالشركة.

أما عبد الرحمن دمياتي عضو حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة المغربية والذي يقطن بقرية جيري فقال لـ "العربي الجديد":"الحاجة تدفع هؤلاء إلى هذا العمل بدون شروط حتى لو كان ما يتقاضونه فتاتاً".

ومضى عبد الرحمن قائلا "الخطير هو أنهم لا يعرفون مخاطر هذه المنتوجات عليهم، والأخطر أن شاباً في مقتبل العمر كان يعمل في المعمل انتحر الشهر الماضي بسبب إدمانه الخمر".

النائب البرلماني دمياتي، تابع قائلا "إن الخمر في متناول جميع العاملين، وهو ما يسهل من إدمان العمال ويدمر حياتهم".

أرباح وخسائر

تدرّ صناعة الخمور أرباحا بالمليارات على أصحابها في مقابل خسائر لا حصر لها يتعرض لها المجتمع، على سبيل المثال ملك الخمور في المغرب "إبراهيم زنيبر" استطاع أن يبني شركته "سيليي دو ماروك"، منذ عقود مستفيدا من تأجير أراضي الدولة الفلاحية بأبخس الأثمان إذ يخصص هذه الأراضي لزراعة العنب الموجه للخمور.

وبحسب بيانات رسمية حصلت عليها "العربي الجديد" فإن هذه الشركة تمتلك فروعاً في العديد من المدن المغربية، في كل من مكناس وأكادير والدار البيضاء وطنجة والرباط ووجدة ومراكش، كما تتعامل الشركة مع موزعين في 15 دولة في العالم.

وتوجد في المغرب ست شركات تنتج الخمور، أهمها "سيليي دو ماروك" إذ تتوفر على وحدتين صناعيتين تسمحان بإنتاج 20 ألف قنينة في الساعة الواحدة (حصة الشركة 85 % في السوق المغربية)، وشركة أخرى تسمى  "براسلي دو ماروك" وشركة تسمى "تالفان" وشركة تسمى "ليدومومين"، بالإضافة إلى أزيد من 10 شركات في التوزيع والاستيراد والتسويق ويتم إنتاج 40 مليون قنينة من الخمر في المغرب سنويا، فيما يشغل القطاع أكثر من عشرة آلاف عامل وعاملة بحسب إحصاءات الدولة الرسمية.

تخفي شجرة الأرباح التي يحصدها عدد قليل من المغاربة غابة من الخسائر والكوارث، إذ يقبع أزيد من 12 ألف نزيل في مختلف السجون المغربية، بحسب إحصائية رسمية حكومية بسبب استهلاك الخمر أو ترويجه، كما يأتي الخمر في المرتبة الثانية ضمن العوامل المسببة لحوادث السير.

نجيب بوليف الوزير المنتدب لدى وزير النقل والتجهيز واللوجستيك المكلف بالنقل كان قد قال خلال مايو/أيار الماضي إن "الإحصاءات تشير إلى أن استعمال الكحول والمخدرات تتسبب في 30 % من الحوادث، وهي نفس النسبة التي يتسبب فيها الإفراط في السرعة".

وقال الوزير المغربي إن "استعمال مثل هذه المواد يضاعف حوادث السير من مرتين ونصف إلى 5 مرات حسب المعطيات الرسمية".

وأكدت إحصاءات أمنية أن جرائم القوانين الخاصة والمتعلقة أساسا بـ(الاتجار في المخدرات، استهلاك المخدرات، السكر العلني، بيع الخمور بدون ترخيص، الهجرة السرية) تحتل أكبر نسبة في عدد السجناء (18 ألفا و836 سجينا فوق عمر العشرين)، الشيء ذاته بالنسبة للمعتقلين الأحداث إذ شكل المعتقلون على خلفية الجرائم المرتكبة بسبب الخمور والسكر العلني (1943 نزيلا في السجون المغربية).

وثيقة توضح مساهمة صندوق للتقاعد في شركة صناعة خمور(العربي الجديد)
















أموال المتقاعدين تصنع الخمر

الدخول في متاهة قطاع الخمور يحمل في طياته مفاجآت، خصوصا أن بيانات حصلت عليها "العربي الجديد" أثبتت أن مؤسسة الصندوق المهني المغربي للتقاعد (مؤسسة عمومية) تمتلك 16% من رأس مال شركة مغربية لصناعة الخمور، اسمها "براسلي دو ماروك".

موظف داخل الصندوق المهني المغربي للتقاعد - رفض ذكر اسمه – علق على الأمر بأن المتقاعدين لا يسألون عن كيفية توظيف أموالهم، وما يهمهم هو المعاش الذين يتقاضونه نهاية كل شهر، والمفاجأة أن هذا الموظف لا يعلم أن المؤسسة التي يعمل فيها تستثمر جزءاً من رأسمالها في شركة خمور، رغم أنه يترأس أحد النقابات داخل المؤسسة.

قصة صناعة الخمور في المغرب تحمل تناقضا آخر في طياتها، ففي الوقت الذي تستمر وزارة المالية المغربية في حصد الملايين من ضرائب قطاع الخمور، تحرّم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الخمر، وتستمر وزارة الداخلية المغربية في الترخيص لعشرات المحلات لبيع الخمور، رغم أن القانون المغربي يمنع بيعها للمسلمين، وهو ما لا يحدث في الواقع، ولكن يبقى القول إنه في ظل هذا التناقض، لا تظهر نهاية للتهميش الذي يطال قرى صناعة الخمور.