يتردد الثلاثيني اليمني زائد الكول على مستشفى الثورة العام وسط صنعاء، من أجل علاج شرخ في ساق قدمه اليمنى نجم عن حادثة التدافع التي وقعت في 28 رمضان الماضي الموافق 19 إبريل/نيسان 2023، في مدرسة معين الحكومية للبنات بمنطقة باب اليمن في العاصمة.
كان الكول يمني نفسه بنيل مساعدة نقدية يقدمها سنويا في ذات التاريخ رجل الأعمال اليمني حسن الكبوس، رئيس مجلس إدارة مجموعة الكبوس للتجارة والصناعة والاستثمار، في محاولة لتخفيف آلام الفقر وإدخال البهجة إلى عائلته.
قبل الحادثة، مر الكول أمام مدرسة معين، ووجد مواطنين كثرا يقفون أمام بوابتها الشرقية، فاصطف معهم، بغية الحصول على المساعدة التي تقدر بخمسة آلاف ريال يمني (10 دولارات أميركية)، قائلا: "كنت أفكر في شراء القليل من جعالة (مكسرات) العيد، حدث ما حدث، ولم أستطع إسعاد أطفالي الأربعة"، ويتابع بألم: "فرحتهم كانت ستعني لي الكثير".
وأجريت عملية جراحية للكول قبل إدخاله غرفة الرقود رقم 2 في قسم العظام بمستشفى الثورة مع 5 آخرين أصيبوا بكسور مختلفة بسبب الحادثة.
ويعد الكول، أحد منتسبي الجيش والذين انقطعت مرتباتهم، كما أنه واحد من بين "77 شخصا أصيبوا في حادثة التدافع"، وفق إحصائية وزارة الصحة العامة والسكان التابعة لجماعة الحوثي، والتي أشارت إلى "وفاة 78 شخصا في الحادثة" لكن الموقع الرسمي لمنظمة العفو الدولية ذكر في 24 إبريل الماضي، أن 85 شخصًا قتلوا في الحادث وأصيب أكثر من 300 آخرين جراء التدافع.
إعادة رسم مسرح الحادثة
تطل البوابة الشرقية لمدرسة معين على شارع فرعي يبلغ عرضه 5 أمتار، وفق معاينة معد التحقيق للمكان.
وبدأ تجمع المواطنين أمام بوابة المدرسة قبل أذان مغرب الثامن والعشرين من رمضان الماضي، لكن الازدحام الشديد أدى إلى تدافع بعد صلاة العشاء في ظل غياب التنظيم، وفق شهادات 5 مصابين خضعوا للعلاج في مستشفى الثورة العام، ومن بينهم الخمسيني صالح علي مبارك الذي يعول 14 فردا كما يقول: "منذ 6 سنوات أحصل على مساعدة الكبوس النقدية في الثامن والعشرين من كل رمضان وفي هذه المدرسة تحديدا ولم يحدث أي تدافع سابقا كما حدث هذه المرة، رغم التجمعات الكثيرة للمواطنين".
وأصيب مبارك في ركبة قدمه اليمني أثناء حادثة التدافع، ويروي ما وقع قائلا: "تدفق الناس بكثافة أمام بوابة المدرسة، وعندما فُتح الباب (خلف الباب باحة صغيرة تنتهي بسلم من ثماني درجات) تساقطت الصفوف الأولى أرضا، ودهستهم أقدام القادمين من خلفهم، بينما استمر تدفق المزيد من المواطنين ما أدى إلى وقوع الوفيات والإصابات"، ويتابع: "طرت في الهواء قبل الوقوع أرضا ومن ثم أصبت".
"علقت قدمي بين الضحايا، فحاولت انتزاعها لإنقاذ حياتي من موت محقق، لكني لم أستطع، حاولت انتزاعها مرة أخرى، هذه المرة بقوة أكبر خوفا على مصير عائلتي ونجحت بعد ألم شديد تبين أنه ناجم عن إصابة رجلي اليسرى بكسر في الساق"، كما يقول الثلاثيني اليمني سمير المقطري، والذي كان يرقد في الغرفة رقم 2 بقسم جراحة العظام والكسور في مستشفى الثورة العام، إلى جوار مبارك.
ويتذكر الثلاثيني يحيى عبدالله، وهو أحد جنود الأمن السابقين، والذي كان يرقد في ذات الغرفة لتلقي العلاج من إصابته بكسر في إحدى قدميه، الزحام أمام بوابة المدرسة ويروي متألما ما جرى: "عند فتح باب المدرسة تحول الناس إلى كتلة بشرية ولم يستطع أي منا السيطرة على حركته وتساقطنا فوق بعضنا وأحسست بكثير من الناس فوق جسدي".
ويشعر عبدالله بالانزعاج من الانتقادات التي يوجهها البعض للساعين إلى الحصول على المساعدة، قائلا: "المبلغ قد يكون صغيرا في نظر البعض لكننا لا نستطيع الحصول عليه بعد انقطاع الراتب، وكان سيفيدني في شراء أبسط مقومات العيد لأبنائي الخمسة"، ويضيف: "كنت أتمنى إسعاد أطفالي في العيد لكن الظروف أقوى مني".
و"يعاني ما بين 71% و78% من اليمنيين من الفقر"، بحسب إحصاء منشور على الموقع الرسمي للبنك الدولي في 21 مارس/آذار الماضي، ويصف البنك المعاناة بسبب تفاقم الأزمة الناجمة عن الصراع الذي طال أمده، وتعطل الخدمات الأساسية، وارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية، بـ "المدمرة".
وتتقاطع الشهادات السابقة مع إفادة الأربعيني عبدالله العزيزي، وهو قريب 3 من الضحايا الذين قضوا في الحادثة (محمد علي البرعي ونجله العشريني محمد والثلاثيني أحمد محمد حمود)، قائلا لـ"العربي الجديد": "كان أقاربي يتهيؤون للسفر إلى قريتهم في مديرية كسم بمحافظة ريمة غرب اليمن، وجدوا حشدا من الناس الذين يتجمعون أمام مدرسة معين، فدفعتهم الحاجة إلى الانضمام للحصول على المساعدات من أجل تخفيف جزء من تكاليف السفر".
الفاقة تقتل الفقراء مرتين
يجمع 5 من المصابين و6 من أهالي المتوفين يوثق التحقيق شهادتهم، أن الفقر الشديد أجبر المحتاجين على السعي للحصول على المساعدات النقدية، ومنهم أقارب العزيزي الذين كانوا يعملون في عربات متنقلة لبيع المأكولات، مضيفا أن الضحايا عانوا من ظروف اقتصادية صعبة وكافحوا بشرف من أجل إعالة أسرهم، إذ عمل البرعي ونجله على عربة بيع للبطاطا المسلوقة من أجل إعالة الأسرة المكونة من 10 أشخاص. أما حمود، فعمل بائع ملابس متجولا، لكن ما يربحه لم يكن يكفي عائلته المكونة من 7 أشخاص.
بالمثل أجبرت الظروف، اليمني صقر كنعان دهمش (19 عاما) على الوقوف مع الناس أمام بوابة المدرسة للحصول على المساعدة النقدية، لكنه توفي في الحادثة بحسب إفادة والده والذي قال متألما لـ"العربي الجديد": "عرفت خبر وفاته من أحد رفاقه، ذهبت إلى مستشفى الثورة لرؤيته لكنهم منعونا من الدخول ثم نقلوا جثمانه إلى مستشفى الكويت الحكومي وهناك تمكنت من زيارته".
وتوقف صقر عن الدراسة وهو في الصف السادس من التعليم الأساسي بعد ارتباط والده بزوجة ثانية وانتقاله للعيش معها، وكان يعول أسرته المكونة من 10 أشخاص وتعيش في حي مسيك بمديرية آزال شرق صنعاء، عبر عمله في بيع قوارير المياه المعدنية كما يقول والده.
الظروف ذاتها أجبرت الضحية عبده المناخي، من فئة الصم والبكم على مزاحمة المتجمعين أمام مدرسة معين للحصول على المساعدة، بعد عجزه عن إعالة أسرته المكونة من طفلتين وزوجته، وفق رواية شقيقة عصام، والذي قال لـ"العربي الجديد": "كان أخي يعمل ضمن الكادر الإداري لمستشفى 26 سبتمبر الحكومي في مديرية بني مطر غرب صنعاء، لكن انقطاع المرتبات بسبب الحرب التي اندلعت في مارس/آذار 2015 جعل حياته تتدهور، ليعيش بحثا عن المساعدات".
ويتعرض "24.1 مليون شخص في اليمن خلال عام 2023 لخطر المجاعة والمرض، 14 مليون شخص منهم، بحاجة ملحة إلى المساعدات"، وفق بيانات البنك الدولي الموثقة في 21 مارس الماضي، ويصف البنك الوضع حاليا بـ"أسوأ أزمة إنسانية عرفها العالم"، بعدما دمر القتال اقتصاد البلاد؛ ما أدى إلى انعدام الأمن الغذائي في بلد يوشك على مجاعة".
عدم تسليم جثامين الضحايا إلى ذويهم
طالبت منظمة العفو الدولية بإحقاق العدالة لضحايا الحادث المروّع الذي كان من الممكن تجنبه، وقالت غراتسيا كاريتشيا، وهي نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية لموقع المنظمة في 24 إبريل الماضي : "ينبغي على سلطات الأمر الواقع الحوثية أن تحقق على وجه السرعة، وبشكل دقيق، ومستقل، ومحايد، وشفَّاف، وفعَّال، في كيفية تحول فعالية خيرية إلى كارثة أودت بحياة العشرات وأصابت مئات آخرين بجروح. وينبغي تقديم الجناة المشتبه بهم إلى العدالة في محاكمات عادلة. ويجب أن تتاح للضحايا وأسرهم إمكانية الوصول إلى العدالة وسُبل الإنصاف الفعَّالة. كما على السلطات أن تمتنع فورًا عن أي شكل من أشكال التدخل في إيصال المساعدات الإنسانية إلى المدنيين".
وشكلت جماعة الحوثي لجنة تحقيق من وزارة الداخلية والأمن والمخابرات والقضاء، لكن نتائجها لم تعلن حتى الآن، وفق مصدر حكومي (رفض الإفصاح عن اسمه لكونه غير مخول بالحديث مع الإعلام)، مؤكدا لـ"العربي الجديد" أن المتوفين لن يتم دفنهم إلا بعد الانتهاء من التحقيق في ملابسات الحادثة.
وهو ما يؤكده الثلاثيني أحمد الخولاني، نجل أحد ضحايا التدافع، والذي كان يقف أمام ثلاجة الموتى في مستشفى الثورة عندما التقاه معد التحقيق في الأول من مايو/أيار الجاري، مشيرا إلى عدم تسلم جثمان والده حتى الآن، كغيره من ذوي الضحايا الذين لم يتسلموا جثامين أقاربهم.
ويخشى أهالي الضحايا من عدم إعلان نتائج لجنة التحقيق، كما هو الحال مع لجان سابقة شكلت في حوادث مختلفة ولم تعلن نتائجها، أخرها لجنة التحقيق في واقعة وفاة أطفال اللوكيميا (توفوا بدواء ملوث في مستشفى الكويت الحكومي) بصنعاء والتي شكلها مجلس النواب التابع لجماعة الحوثي في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022.
وتسلمت أسرة الخولاني، مليون ريال (1900 دولار)، من الهيئة العامة للزكاة التابعة لجماعة الحوثي، إذ أعلنت عقب الحادثة عن دفع المبلغ لأسرة كل متوفى، وعلاج المصابين مع دفع 200 ألف ريال (380 دولارا) لكل مصاب. وأعلنت الغرفة التجارية والصناعية بصنعاء والتي يترأس مجلس إدارتها رجل الأعمال حسن الكبوس، عن "منح ذوي كل ضحية 3 ملايين ريال (5700 دولار) جبرا للضرر"، حسب بيانها وكذلك ما أعلنه الاتحاد العام للغرف التجارية الصناعية اليمنية في 21 إبريل الماضي. لكن الخولاني يؤكد أنهم لم يتسلموا هذا المبلغ حتى الآن، ويقول: "ربما يكون الدفع في طور استكمال الإجراءات".
حق الرد
للحصول على حق الرد حول ما حدث، تواصل معد التحقيق مع خالد السماوي، مدير مكتب رجل الأعمال حسن الكبوس عبر تطبيق "واتساب"، لكنه لم يرد، فتواصل مع مصدر في الغرفة التجارية الصناعية بصنعاء (رفض الكشف عن هويته كونه غير مخول في الحديث للإعلام) وبحسبه فإن المسؤولين في مجموعة الكبوس التجارية أغلقوا هواتفهم وامتنعوا عن تقديم أي معلومات لوسائل الإعلام، حتى لا يدخلوا في صدام مع جماعة الحوثي وتتضرر مصالحهم، متهما جماعة الحوثي بالسعي إلى استغلال الحادثة لممارسة ضغوط أكبر على التجار ومنعهم من تقديم المساعدات مباشرة للفقراء، ودفعها للهيئة العامة للزكاة التابعة للجماعة وهي من ستتولى منحها للمحتاجين.
وتتفق ميساء شجاع الدين، الباحثة في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية (غير حكومي) مع مصدر الغرفة التجارية والصناعية في صنعاء، قائلة إن الحادثة خدمت توجه جماعة الحوثي في التضييق على رجال الأعمال ومحاولة إجبارهم على تسليم كل المساعدات لهم، لكنها لا تحمل الجماعة وحدها مسؤولية وقوع ضحايا في حادثة التدافع، مضيفة في إفاداتها لـ"العربي الجديد" أن أطراف الصراع شركاء في المسؤولية.