يئست السودانية صفاء الحمري من توقف الاشتباكات الدائرة منذ صباح الخامس عشر من إبريل/نيسان الماضي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، بعد 20 يوما من العيش في رعب هي وأبناؤها بسبب أصوات الأسلحة والانفجارات التي يهتز بفعلها سقف منزلهم الواقع على بعد 14 كيلومترا من معسكر يتبع لقوات الدعم السريع في حي الشيخ يوسف غرب مدينة أم درمان في ولاية الخرطوم.
"قررت الابتعاد إلى منطقة أكثر أمانا ولم ترتفع فيها الأسعار بعد بشكل جنوني"، ومن مدينة رَبك جنوب ولاية النيل الأبيض، تقول الحمري لـ"العربي الجديد": "يمكن التعايش مع حياة تحت القصف لكن الجوع لا يمكن التعايش معه"، إذ استغل تجار الأزمة ووصل سعر جوال السكر (50 كيلوغراماً) إلى 50 ألف جنيه (84 دولارا أميركيا) بعد أن كان بـ 28 ألفا (47 دولارا)، أما عبوة زيت الطعام فأصبحت تباع بـ 28 ألف جنيه بدلا من 12 ألفا (20 دولارا)، ووصل سعر الكيلو الواحد من الدقيق إلى 14 ألف جنيه (24 دولارا)، بعد أن كان يباع بـ6 آلاف فقط (10 دولارات).
وفاقم الصراع أزمات السودانيين الذين يعانون من الجوع وسوء التغذية الحاد بخاصة في الخرطوم وإقليم دارفور، ومحافظتي كسلا والنيل الأبيض، وهي المناطق الأكثر تضررا من الصراع والتدهور الاقتصادي، إذ ارتفع سعر سلة الغذاء المحلية بنسبة 57.8% منذ بداية عام 2022، وفقا لتقرير "السودان: التقييم الشامل للأمن الغذائي وهشاشة الأوضاع - الربع الأول 2022"، الصادر عن برنامج الأغذية العالمي في يونيو/تموز الماضي.
كما يهدد النزاع المستمر منذ شهر موسم الزراعة الرئيسي، بينما ارتفعت أسعار السلع الأساسية بشكل كبير، ما يزيد من مخاطر انعدام الأمن الغذائي مستقبلا، وازدياد أعداد الجوعى، بحسب تقرير موجز المستجدات الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في 14 مايو/أيار 2023، بعنوان السودان: اشتباكات بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع- تحديث رقم 12.
تكاليف باهظة للنزوح
توجهت الحمري إلى محطة "باصات (حافلات) السوق الشعبي" في أم درمان، ومع اقترابها من أول حافلة سمعت صبي يقول إن سعر التذكرة 30 ألف جنيه (51 دولارا)، فابتعدت قليلا حتى تُقيِّم أوضاعها المالية، إلى أن جاءها ابنها وأخبرها أنه تمكن من إيجاد تذكرة بنصف المبلغ الأول، رغم أن سعر التذكرة كان 8 آلاف جنيه (14 دولارا) في الوضع الطبيعي.
وتمكنت الطالبة الجامعية آلاء البشير علي، والتي كانت تقيم في سكن داخلي خاص وسط العاصمة بالقرب من مطار الخرطوم الدولي، من مغادرة العاصمة عبر حافلات إلى بورتسودان، وكلّفتها الرحلة 250 ألف جنيه (417 دولارا)، واضطرت إلى البقاء خمسة أيام في أحد فنادق بورتسودان ورغم أن ثمن الإقامة وصل إلى 100 دولار في الليلة، لكنها وافقت حتى تتمكن من الحصول على تذكرة للصعود على ظهر إحدى السفن المتجهة إلى مدينة جدة في المملكة العربية السعودية حيث تقيم أسرتها، قائلة: "دفعت 500 ألف جنيه أي ما يعادل 833 دولارا مقابل التذكرة".
وتنسحب الزيادة على إيجارات المنازل أيضا، خاصة في المناطق التي شهدت نزوحا كثيفا باتجاهها مثل ولاية الجزيرة وسط السودان التي اتخذها كثير من سكان الخرطوم ملاذا لهم من نيران العاصمة، إذ توجه إليها ولاء عبد الرؤوف جابر، موظف حكومي، هاربا من شدة القصف، وقرر أن يستأجر شقة صغيرة للإقامة فيها وأسرته، لكنه صُدم بأسعار الإيجارات التي قفزت لأرقام فلكية في وقت وجيز، إذ بلغ سعر الإقامة لليلة واحدة بين 20 و30 ألف جنيه (بين 34 و50 دولارا)، ولا خيار أمام النازحين سوى القبول بتلك الأسعار أو السكن في منازل غير مهيأة تفتقر للمياه والكهرباء.
ونزح 936 ألف شخص بسبب النزاع منذ 15 إبريل، وعبر 200 ألف شخص إلى الأقطار المجاورة، بحسب تقرير الحالة رقم 3 المتعلق بالسودان، الصادر عن منظمة الهجرة الدولية (IOM).
ويحيل رئيس الغرفة القومية للباصات السفرية (نقابة) أحمد الطريفي زيادة الأسعار إلى ارتفاع أسعار الوقود قائلا لـ"العربي الجديد" :"حالة الاستغلال يتسبب بها سماسرة الوقود الذين يبيعون البرميل بـ 500 ألف جنيه، بدلًا من 120 ألف جنيه (200 دولار)، بالإضافة إلى تخوف سائقي الباصات من العمل في ظروف الحرب لذلك تزداد تكلفة الأجرة"، مشيرا إلى أنهم في الغرفة أصدروا قرارات بتطبيق زيادات لا تتعدى 20% من قيمة التذكرة خلال إبريل/نيسان، لكن مع إطالة أمد الحرب يفترض أن الجهات الأمنية هي من تضبط حركة السوق، موضحا أن الزيادات الجنونية في أسعار تذاكر الحافلات السفرية سببه بعض السائقين وليس قرارات الغرفة، منبهًا إلى وجود سماسرة يتسببون في خلق حالة الاستغلال التي تسود سوق تذاكر السفر.
وأصبحت مشاهد طوابير السيارات أمام محطات الوقود في الخرطوم مألوفة، ورغم أن الوقود كان يشهد ندرة بين الفينة والأخرى في السابق، لكن الأزمة اليوم لا تشبه سابقاتها بحسب مهند تبيدي الذي يسكن في محافظة شرق النيل التابعة للخرطوم، قائلا إنه توجه إلى عدة محطات باحثا عن بنزين لسيارته لكن جميع محاولاته باءت بالفشل، إلى أن أوصله صديقه بشخص يبيع الوقود مقابل مبلغ يتراوح بين 35 إلى 40 ألف جنيه (من 58 إلى 67 دولارا) للغالون (يعادل 4.546 لترات وفقا للمقياس البريطاني)، وبعد إلحاح يقول مهند إنه تمكن من شراء غالوني بنزين بمبلغ 75 ألف جنيه (125 دولارا).
ويغطي الإنتاج المحلي من النفط في السودان 40% من جملة الاستهلاك الكلي، بحسب بيانات نشرتها وزارة الطاقة في مارس/آذار 2022، لكن هذه النسبة تناقصت في ظل الظروف الحالية بسبب انتشار قوات الدعم السريع في مناطق متناثرة في محيط مصفاة جيلي للمواد البترولية، في مدينة بحري شمال شرقي العاصمة.
رحلة الحصول على الخبز والماء
يقف عمار بعقوب في منطقة الرياض بحي الثورة في مدينة أم درمان ضمن صف طويل من الواقفين أمام المخبز للحصول على رغيف لأبنائه، وقد "يستغرق الوصول يوميا أحيانا حوالي ثلاث ساعات وهو أمر صعب للغاية" على حد وصفه.
وهو ما ترصده معدة التحقيق في مدينة أم درمان غربي العاصمة، إذ يتراص المواطنون في صفوف طويلة للحصول على رغيف الخبز الذي وصل سعره إلى 70 جنيها (0.12 دولار)، بينما كان سعره سابقا 30 جنيها (0.050 دولار).
وأغلقت كثير من المخابز أبوابها بحسب بعقوب، إما خوفًا من الأوضاع الأمنية المتدهورة جراء الاشتباك المسلح بين الجيش وقوات الدعم السريع وغياب الشرطة، وإما لنفاد الدقيق أو الغاز، أو سفر العمال إلى ذويهم خارج الخرطوم.
ولا تختلف معاناة السودانيين في الحصول على الماء كثيرا، إذ انقطعت المياه منذ اليوم الأول من النزاع عن مناطق عديدة في الخرطوم، كما تروي نعيمة إبراهيم المقيمة في منطقة الكلاكلة القبة جنوب الخرطوم، قائلة :"السكان يضطرون للخروج رغم المخاطر بحثًا عن جرعة ماء تسد ظمأهم"، أما هي فتضطر لجلب الماء بواسطة سقا (يجلب المياه من النيل الأزرق ويبيعها في العادة لسكان المناطق التي لا تصلها شبكة المياه)، والذي استغل الأزمة هو الآخر ورفع سعر غالون الماء الواحد إلى 8 آلاف جنيه (14 دولارا)، وكان يباع في الأوضاع الطبيعية بألفي جنيه (4 دولارات)، وتقول نعيمة إنه "من سخرية القدر أن يُعاني السكان من انعدام الماء في بلد يشقه أطول نهر في العالم".
لماذا قفزت الأسعار؟
أصيب السودانيون الذين يقطنون في محيط مطار الخرطوم، حيث تزايدت وتيرة الاشتباكات في الأيام الأولى للحرب بهلع دفعهم إلى شراء المواد الغذائية وتخزينها في المنزل، ما دفع التجار إلى مضاعفة أسعار السلع الاستهلاكية بصورة كبيرة جدًا، بحسب عفراء فتح الرحمن، وهي أم لطفلين تسكن "الجريف غرب"، شرق مطار الخرطوم، موضحة أن تجار الأزمات "استغلوا حاجة الناس ومصائرهم المجهولة مع انعدام خيارات أخرى غير القبول بالأسعار الباهظة".
ولم تقفز أسعار المواد الغذائية مرة واحدة فقط، بل تتوالى الزيادات بحسب عفراء، بسبب طول أمد النزاع وندرة المواد الغذائية وإغلاق معظم المحلات التجارية، مشيرة إلى أن سعر كيلو الطماطم وصل إلى 3 آلاف جنيه (5 دولارات)، والبطاطا تباع بألف جنيه للكيلو الواحد (دولاران)، إضافةً إلى ارتفاع سعر كيلو السكر من 700 جنيه إلى 5 آلاف (من 1.17 إلى 9 دولارات)، وشمل الارتفاع أسعار اللحوم إذ وصل سعر كيلو الضأن الى 8 آلاف جنيه (14 دولارا)، بدلا من 4500 جنيه سوداني (8 دولارات).
ويتطابق ما توثقه "العربي الجديد" مع ما رصدته أوتشا في تقريرها حول الحالة في السودان، والذي أورد أن أسعار الغذاء والوقود والسلع الأساسية الأخرى آخذة في الارتفاع، ما يجعل أسعار السلع الأساسية لا يمكن تحملها بالنسبة لكثير من السودانيين، وهناك نقص في السلع المستوردة مثل الدقيق والزيت، وفي بعض المناطق أغلقت المتاجر أبوابها بسبب انعدام الأمن أو قلة البضائع، ولا يزال الحصول على النقد مشكلة كبيرة في ولايتي الخرطوم وجنوب دارفور في حين أن الزيادة في أسعار الوقود وتكاليف النقل أعاقت الحياة اليومية وقدرة الناس على الخروج من المناطق غير الآمنة.
ويرجع عبد الباقي المبارك، تاجر ومورد سلع في السوق المحلي جنوب العاصمة، ارتفاع الأسعار إلى عدم انتظام سلاسل التوريد كما كانت قبل النزاع المسلح، ولأن طرفا النزاع لم يسمحا بإنشاء ممرات آمنة لإدخال الأغذية والسلع ارتفعت الأسعار وخاصة السلع الضرورية مثل الدقيق والسكر وزيت الطعام ومنتجات الدقيق والحلويات، حتى أن الأسعار لبعض السلع قفزت بنسبة 50 % وفي بعضها وصلت نسبة الزيادة إلى 300%.
ومن العوامل التي أسهمت في رفع الأسعار أيضا، استغلال سائقي شاحنات نقل السلع للظروف، وطلبهم مبالغ كبيرة للموافقة على الانتقال بين الأحياء والمتاجر، بحسب المبارك، كما أن نهب بعض المصانع الغذائية شمال العاصمة السودانية وجنوبها أدى الى "اضطرابات في الأسواق"، نتيجة خروج نحو 15 مصنعا وشركة إنتاج للغذاء وتوقف سلاسل التوزيع، محذرا من توقف المتاجر بشكل كلي في حال استمر النزاع دون تخصيص ممرات آمنة، كما أن انتشار قوات الدعم السريع في الأحياء و"تقلبات سلوك" عناصرها يجعل التجار والموردين يتخوفون من تعرضهم إلى النهب.
وفي رده على "العربي الجديد" حول إمكانية مواجهة حالة استغلال السودانيين الراهنة، يقول نصرالدين شلقامي رئيس الجمعية السودانية لحماية المستهلك، "إن هذه المعركة حرب غير أخلاقية إذ لا تتقيد بمبادئ الأمم المتحدة والشروط الإنسانية في الحروب لذلك نتج عنها استغلال المواطن وانتهاك حقوقه حتى في الحياة"، مضيفا أن البلاد تشهد غياب سلطة مدنية، وتسيطر عليها سلطة البندقية التي رسخت عمليات النهب والسرقة والاستغلال".
حياة الناس بين يدي سماسرة الدواء
يكشف بيان صادر عن وزارة الخارجية في الخامس من مايو/أيار الجاري، أن قوات الدعم السريع تمنع المواطنين من الوصول إلى صيدلية الإمدادات الطيبة المركزية، واتهمتها بالاستمرار في ترويع المواطنين واتخاذهم كدروع بشرية واستخدام المستشفيات كثكنات عسكرية، ومواصلة نهب وإتلاف الصيدليات.
وفي ظل هذه الظروف، تغيب أصناف عديدة من الأدوية المنقذة للحياة عن الصيدليات رغم وجودها لدى تجار الشنطة بالسوق السوداء، وفق ما يكشفه الطبيب أسامة محمد أحمد، اختصاصي جراحة عامة في مستشفى النو بمدينة أم درمان، مشيرا إلى أن "من يقوم باستغلال الوضع هم صيادلة يتاجرون بحياة الناس ويعلمون أهمية وخطورة والحاجة إلى الأدوية المنقذة للحياة.
ورصد الطبيب ارتفاعا في أسعار أدوية أساسية "منقذة للحياة" كما يصفها، مثل موسع الشعب الهوائية الذي يخفف من ضيق التنفس، وكان سعره لا يتعدى ألفي جنيه (4 دولارات)، لكنه وصل اليوم إلى 11 ألف جنيه، أي ما يعادل 19 دولارا، كما أن تجار الأزمات تمكنوا من السيطرة على الأدوية المائية "المحاليل" التي وصل سعرها إلى 7آلاف جنيه (12دولارا)، معتبرا أن سيطرة التجار على الأدوية المنقذة للحياة كارثة ستقضي على الناس أكثر من الحرب.
ومن بين المرضى الذين يعانون في تأمين دوائهم، الثلاثيني عبدالقادر يحيى، الذي تم تشخيصه بالتهاب في الكلى، وكان في آخر مراحل التعافي من علته على سرير الشفاء في مستشفى أحمد قاسم بالخرطوم بحري، ما يتطلب تناول أدوية محددة حتى يشفى تماما، إلا الحرب عطّلت كل شيء وتسببت في تدهور حالته الصحية، بسبب إغلاق الصيدليات الرئيسية وتوقف الإمدادات الطبية، ويوضح عبد القادر أن هناك إعلانات تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي تعلن عن توفر بعض الأدوية التي يحتاجها لكن يستحيل الوصول إلى بائعيها حتى في ظل الأوضاع الأمنية المضطربة، كاشفًا أنه تواصل مع أشخاص قادمين من القاهرة لتوفير العلاجات المطلوبة كآخر خيار لإنقاذ وضعه الصحي.
أما العشريني أحمد عبد الله الذي يعاني من داء السكري، فتوجه إلى صيدلية بالقرب من منزله في حي البستان في أم درمان، لكنه وجد أن سعر الأنسولين ارتفع إلى 2600 جنيه بدلًا من 5 دولارات، بينما كان سابقا 1800 جنيه (3 دولارات)، ما دفعه إلى مغادرة الصيدلية، وبعد ساعة أرسل شقيقه الأصغر إلى ذات الصيدلية للسؤال عن الانسولين، ليجد سعره قد وصل إلى 2800 جنيه، فاضطر لشرائه قبل أن يرتفع أكثر.
ورصدت معدة التحقيق رواج بيع أدوية أساسية عبر مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي، ومنها مجموعة باسم "وفرة دواء"، تضم 79.357 عضوا، ويديرها صيادلة "لمساعدة الناس في البحث عن الأدوية" كما كتب عليها، وتواصلت مع المجموعة للسؤال عن الأنسولين، ليجيبها أحد الصيادلة أنهم يبيعونه بـ 6 آلاف جنيه، متذرعا بصعوبة الوصول إلى الأدوية ونقلها من مناطق بعيدة ما دفعهم إلى رفع الأسعار.