تتفاقم الأزمة الإنسانية في السودان جراء استهداف المنظمات الإغاثية ونهب محتويات مخازنها وسياراتها، بالإضافة إلى تهديدات واعتداءات طاولت موظفيها وصلت حد القتل والاعتقال، ما يوسع دائرة مرضى وجوعى على شفير الموت.
- شهد عامل الإغاثة السوداني عيسى مبارك تخريب ونهب مقر عمله التابع لمنظمة أيرلندية قرب مدخل مدينة كتم شمال إقليم دارفور غربي السودان، مفضلا عدم ذكر اسمها حتى لا يستهدفه المتورطون، إذ فوجئ صباح 20 مايو/أيار 2023 بعناصر من قوات الدعم السريع يسيطرون على المكاتب أثناء توجهه إلى عمله، ولدى سماعه صوت إطلاق النار، توارى عن الأنظار في متجر قبالة مقر المنظمة، وأخذ يراقب ما يجري، وأخفى كل ما يدل على أنه موظف بها، وما زاد من ذعره مشاهدته مقتل حارس الأمن وإصابة اثنين من زملائه على يد عناصر من قوات الدعم السريع، بقي ينتظر انسحابهم حتى يسعفهم ويتصل بأسرة زميله لإعلامهم بخبر الوفاة.
عقب ذلك، قررت المنظمة إيقاف عملها في مدينة كتم التي طاول النهب والتخريب فيها عددا من المنظمات الإنسانية والإغاثية الأخرى بحسب مبارك، ولم ينته الأمر هنا بحسب مسؤولة الاتصال في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في السودان، غيومار باو سول، إذ سُجلت 191 حالة عنف ضد عاملين في المجال الإنساني واعتداء على الأصول والمرافق والإمدادات، وقتل 15عاملا على الأقل وأصيب كثيرون لم يتمكن المكتب من حصر أعدادهم خلال النزاع الذي بدأ في 15 إبريل/نيسان الماضي.
اعتقالات وقتل
يقول عضو لجان المقاومة السودانية بحري محمد عبدالله إنه تلقى تهديدات بالتصفية الجسدية خلال فترة اعتقاله من قبل الجيش السوداني في 6 مايو الماضي والتي استمرت لأربعة أيام، فضلا عن تعرضه للتعذيب بسبب مشاركته في إيصال المساعدات الإنسانية وتأمين الأدوية وغيرها من الاحتياجات، مؤكدا أن هناك 5 أعضاء من لجان المقاومة والمتطوعين ما زالوا رهن الاعتقال منذ منتصف مايو الماضي بسبب سعيهم إلى إعادة تشغيل المشافي في مدينة الخرطوم بحري شمالي ولاية الخرطوم.
قتل 15 موظفاً يتبعون لمنظمات إغاثية منذ بدء الصراع
ويعرقل استهداف موظفي المنظمات الإنسانية عملها بالكامل رغم الحاجة الماسة إلى المساعدات الإغاثية في ظل الفوضى وانعدام الأمن في البلاد، كما حصل في إيقاف برنامج الأغذية العالمي لكافة نشاطاته عقب مقتل 3 من موظفيه في اليوم الأول من القتال في مدينة كبكابية شمالي دارفور، كما أصيب موظفان آخران أثناء القيام بعملهم على الخطوط الأمامية لمحاربة أزمة الجوع، وعندما عاد البرنامج لاستئناف أعماله في مايو المنصرم، تمكن من دعم 50 ألف شخص من خلال حزم غذائية طارئة في ثلاث ولايات، وهي القضارف وكسلا والنيل الأبيض، بحسب ما قالته المسؤولة الإعلامية لدى البرنامج ليني كينزلي، في حوار نشر على موقع الأمم المتحدة في 12 مايو الماضي.
وتعرض موظفون في منظمة أطباء بلا حدود لاعتداءات وتهديدات فضلا عن احتجازهم لساعات أثناء قيامهم بعملهم، بحسب الرد المكتوب الذي تلقاه "العربي الجديد" من المنظمة، كما جرت سرقة سيارات ومخازن الإمداد الخاصة بها، إذ سبق أن أعلنت المنظمة في بيان نشر على موقعها بتاريخ 24 مايو 2023، رفضها للمضايقات غير المقبولة لموظفيها والنهب العنيف واحتلال مبانيها الطبية والمرافق المدعومة في السودان، وقالت أن موظفيها والمرضى في مواجهة مستمرة وصدام مع الجماعات المسلحة التي تدخل وتنهب مبانيها وتسرق الأدوية والإمدادات والمركبات، مؤكدة على أن "هذا التجاهل الصادم للمبادئ الإنسانية والقانون الإنساني الدولي أعاق قدرتها على توفير الرعاية الصحية للناس في وقت تشتد الحاجة إليها".
وترفض قوات الدعم السريع اتهامها بالتعدي على مكاتب المنظمات الأممية بولايات دارفور، إذ يصر المستشار السياسي لقائد قوات الدعم السريع، يوسف عزت، في حديثه لـ"العربي الجديد" على عدم وجود أي اعتداء على موظفي الإغاثة في دارفور من قبل قواتهم، زاعما أن من مهامهم حماية البعثات الأممية بالإقليم، "ولم تطلب أي جهة تقدم الدعم والإغاثة الحماية إلا وقدمها الدعم السريع لها، معتبرا أن اتهامهم بالنهب والتخريب جزء من دعاية الحرب، وأنه لا ينبغي التعامل معها كحقيقة"، ويعلق في رده على مقتل مفوض العون الإنساني بولاية غرب دارفور الصادق محمد أحمد تحديدا قائلا "إن هناك ربطا خاطئا بين ما تقوم به مليشيات عربية مسلحة وبين قوات الدعم السريع، معتبرا أن هذا اللبس وقعت فيه جهات كثيرة بما فيها الأمم المتحدة ومنظمات دولية أخرى"، كما ينفي اعتقال أي عضو من لجان المقاومة المتطوعين لصالح المنظمات الإغاثية أو المشافي سواء بالخرطوم أو دارفور، لافتا إلى أنه إذا ثبت وقوع هكذا حوادث في أي مكان فإنها غير مقصودة ومعزولة تعالج في إطارها".
عدم تخصيص ممرات آمنة
يُجمع العاملون مع المنظمات الإغاثية في السودان، والذين قابلتهم معدة التحقيق على أنهم تعرضوا للترويع والتهديد بالقتل بخاصة في مدينتي كتم وكبكابية، ومن بينهم الموظف في منظمة Goalglobal (أيرلندية تعمل في شمال دارفور وجنوب كردفان) محمد عميد، الذي طلب استخدام اسم مستعار خوفا من تعرضه للأذى، مؤكدا أن معظم المنظمات العاملة في المجال الإنساني بولايات دارفور تعرضت لنهب كلي وتخريب لبعض أصولها، ومن بينها برنامج الغذاء العالمي، والمجلس النرويجي للاجئين، ومنظمة الريان الإنسانية، ما أدى إلى توقف عملها بسبب عدم توفير ضمانات بعدم التعرض لموظفيها، اضافة لعدم الإلتزام بتخصيص ممرات آمنة.
وبحسب تقرير الحالة الإنسانية الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية لشهري إبريل ومايو فإن الاعتداء على المراكز الصحية وشركاء الإغاثة قضى على مخزون الأدوية والإمدادات، بما في ذلك اللقاحات، ومن بين 485 حادثة عنف يوثقها التقرير، استهدف 31% منها العاملين في المجال الإنساني والأصول والمرافق، و13% منها صُنفت على أنها أعمال عدائية نشطة تعرقل الأعمال الإغاثية.
31 % من أعمال العنف استهدفت أصول ومرافق المنظمات الإنسانية
وهو ما يؤكده الناشط بحري في حديثه لـ"العربي الجديد" بأنه شهد على "عرقلة العمل الإغاثي الذي وصل إلى حد منع مدينة الخرطوم بحري من نصيبها من المساعدات منذ اندلاع الحرب".
ويكشف عميد أن موظفي الإغاثة بولايات دارفور يعيشون أوقاتا عصيبة بسبب الاستهداف الممنهج الذي يتعرضون له، بالرغم من حرصهم على الابتعاد عن المناطق التي تتواجد فيها قوات الدعم السريع. ويبين محجوب عبد النبي والذي عمل مع عدة منظمات دولية بالخرطوم أن طبيعة عمله تفرض عليهم العمل في مناطق الصراعات لكن في بعض الدول يتم تسهيل واحترام القانون الدولي الإنساني وتوفير ممرات آمنة لموظفي الإغاثة، حتى في حرب دارفور عام 2003 تم احترام موظفي الإغاثة والسماح لهم بأداء مهامهم بسهولة لكن الآن في السودان لا يوجد احترام للقوانين الدولية التي توفر الحماية لموظفي الإغاثة، مشيرا إلى تعرض فريق الصليب الأحمر بالخرطوم الى إطلاق نار بشكل مباشر قبل عبوره خط المواجهة، وهذا يوضح حجم الخطر الذي يتعرضون له.
النهب يحرم المدنيين من المساعدات
نُهب ما يقرب من ربع مخزون برنامج الأغذية العالمي في السودان خلال الصراع الأخير، إذ سرق حوالي 17200 طن من المساعدات الغذائية الطارئة، والتي كانت كافية لإطعام حوالي 1.6 مليون شخص لمدة شهر، بالإضافة إلى نهب مساعدات نقدية كان من المفترض أن يتم توزيعها على محتاجين، ووقعت حوادث النهب هذه في مكاتب المنظمة المختلفة ومبانيها في جميع أنحاء البلاد، بحسب كينزلي.
نُهب ما يقرب من ربع مخزون برنامج الأغذية العالمي في السودان خلال الصراع الأخير
وتنذر حوادث النهب تلك بعجز المنظمات عن مساعدة الفئات الأكثر احتياجا في السودان، بخاصة أن هذا الاضطراب سيدفع بأعداد إضافية إلى الجوع، إذ أظهر تقييم أجراه برنامج الأغذية العالمي قبل اندلاع النزاع أن 16.8 مليون شخص سيواجهون انعدام الأمن الغذائي في موسم العجاف القادم بالسودان (الفترة الممتدة بين يونيو/حزيران وسبتمبر/أيلول من كل عام والتي تشهد تراجعا في إنتاج المحاصيل)، ومن المتوقع أن يدفع هذا الصراع 2.5 مليون شخص إضافي للجوع وبذلك، فإن 19 مليون شخص في البلاد عموما، أي ما نسبته 41% من السكان، سيكافحون من أجل البقاء والحصول على ما يأكلونه كل يوم.
وفي الوقت الذي كانت منظمة أطباء بلا حدود والتي تدير مشاريع طبية في 10 ولايات تسعى إلى توسيع نطاق أنشطتها الطبية منذ اندلاع القتال العنيف، سرعان ما بددت أعمال النهب والاحتلال المسلح لمباني المنظمة تلك الجهود، إذ وثقت المنظمة 8 حوادث عنف استهدفت مقراتها ومبانيها، حتى أُجبرت بالفعل على تعليق أنشطتها الطبية في جنوب دارفور بعد تعرض مجمعها ومستودعها للنهب في نيالا في 16 إبريل الماضي، وتعرض مستودع تابع لها في الخرطوم إلى نهب الإمدادات الطبية والوقود والمركبات واحتل حتى فسدت الأدوية، وبين 17 و23 مايو الماضي، تعرض مكتب المنظمة في زالنجي وسط دارفور للنهب وكذلك مستشفى زالنجي التعليمي، وفق ما نشرته المنظمة على موقعها الإلكتروني في 24 مايو الماضي.
وسط هذه الفوضى، تتفاقم معاناة السودانيين يوما بعد يوم، ومنهم الثلاثينية زهرة محمود التي تعيش في معسكر نيفاشا للنازحين في ولاية شمال دارفور إذ تعتمد أسرتها على المساعدات الإنسانية التي تصل إليها من برنامج الأغذية العالمي، وتشمل مواد الذرة والزيت والملح والعدس، لكن عندما أوقف البرنامج أنشطته عقب مقتل 3 من موظفيه في بداية الصراع لم تجد ما يسد رمقها هي وأطفالها، وما زاد الطين بلة أنها فقدت زوجها في الاشتباكات التي وقعت في سوق نيفاشا في 19 إبريل الماضي.