التعذيب النفسي للأسرى... أشباح الزنازين الانفرادية تطارد المحررين الفلسطينيين
لا تنتهي معاناة الأسير لحظة تحرره كما يتصور البعض، إذ تطارده أشباح الماضي الناجمة عن آثار تعذييه نفسياً داخل زنازين الاحتلال الإسرائيلي، والتي تتسبب في أمراض "نفسجسمانية" خطيرة تلازمه وتعيق اندماجه مجتمعياً وتضغط على محيطه.
- تمتلئ ذاكرة الأسير المحرر والمبعد إلى قطاع غزة إياد أبو حسنة، بالعديد من مآسي الزنزانة الانفرادية والتي تم عزله داخلها لثلاث سنوات ونصف السنة تعرض فيها لضغوط نفسية قاسية، إذ حاول ضباط الشاباك دفعه للانتحار، حتى أنهم وضعوا شفرة حادة، وحبلا طويلا، وولاعة، إلى جانبه، كما تحدث معه أحدهم قائلا :"إياد هذا آخر يوم لك في الدنيا، اختر طريقة انتحارك، لا أمل لك في الحياة".
اعتقل أبو حسنة 23 عاماً وأفرج عنه في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2011 من سجن عزل الرملة "أيالون"، كما يقول مضيفا لم يكتفوا بذلك، بل تعمدوا إسماعي أصوات تمثيليات انتحار لأسرى مفترضين، "كنت أسمع أسيرا يصرخ سأنتحر لأرتاح، بعدها يقول سجان بصوت عال الأسير فلان شنق نفسه، ثم أصوات إخراج جثمان من الزنزانة"، كما تمت تعريته في زنزانته الانفرادية، وسكب القاذورات ومياه الصرف الصحي عليه، ولم يجد حلا سوى التظاهر بالجنون في محاولة لتخفيف الضغوط، لكن معاناته النفسية مستمرة حتى اليوم، إذ يسيطر عليه القلق، والميل للوحدة، وهي أعراض تعانيها الأسيرة المحررة وفاء البس، والتي تم عزلها في زنزانة انفرادية لعامين ونصف العام، من بين 7 أعوام قضتها في سجن "أيالون" والمعروف بـ "غوانتنامو فلسطين"، إذ تميل إلى الوحدة والانطوائية، وتفضل الجلوس في العتمة، وتتجنب التعرض لضوء الشمس بشكل مفاجئ، إضافة إلى موجات الاكتئاب التي تصاب بها لفترات متقطعة، ويصاحبها حزن وبكاء بدون أي مؤثر خارجي، كما أنها خسرت الكثير من علاقات الصداقة التي أقامتها، وتعاني من عدم القدرة على الاندماج مع المجتمع.
مطاردة الأشباح للمحررين
وُضعت البس في زنزانة طولها متر ونصف المتر، وعرضها متر واحد، وإلى جوارها جنائيات "إسرائيليات"، كما تقول وتضيف :"كنت أسمع الصراخ والأصوات الغريبة، واعتداءاتهن على بعضهن، ولا أرى الشمس ولا الهواء، وبعد أسابيع قليلة بدأت أعاني مشاكل نفسية، بينها موجات اكتئاب حادة، وتخيلات، وشعور بالضيق، وظهرت أعراض جسدية مثل الحرارة المرتفعة، وطفح جلدي، وهذه الآثار كانت تتزايد مع تعمد إدارة السجن ممارسة المزيد من الضغوط النفسية مثل التهديد بالقتل"، وهو ما يتطابق مع نتائج دراسة الاستشاريين إياد رجب السراج وسمير محمد زقوت، من برنامج غزة للصحة النفسية، والدكتورة مريم أبو دقة من مركز الدراسات النسوية التنموية، الصادرة عام 2010 بعنوان "الآثار النفسية والجسمية بعيدة المدى للتعذيب لدى الأسيرات الفلسطينيات، المحررات بقطاع غزة"، والتي توصلت إلى أن الأسيرات عانين من مشكلات نفسية متعددة، أعلاها كانت الأعراض "النفسجسمانية (النفسية التي ينتج عنها أعراض جسدية)"، والتي احتلت المرتبة الأولى، بنسبة 40.5%، ويليها أعراض الوسواس القهري 33.5%، ثم أعراض الاكتئاب 33.3%، وأعراض القلق 31%، وأعراض العداوة و"البارانويا التخيلية" 29.4%، وأعراض قلق الخوف 27.7%، وأعراض الحساسية التفاعلية 27.2% " والأعراض الذهنية 18.8%.
التأثير على نفسية الأسير وضرب قواه العقلية أهم أهداف العزل
غياب برامج التأهيل النفسي
قضى الأسير المحرر هلال جرادات، في سجون الاحتلال 27 عاما، عُزل خلالها في الحبس الانفرادي ثلاث سنوات، ولا يزال يعاني من القلق الدائم، والميل للعزلة، لكن حالة الأسير المحرر عويضة كلاب أشد وأقسى، بعدما قضى 20 عاما متواصلة في عزل انفرادي، ما تسبب في معاناته من أزمة نفسية حادة، أفقدته قواه العقلية بصورة كاملة، رغم محاولات عائلته علاجه بعد تحريره عام 2011، بينما بدأ الأسير محمد أبو جاموس في التعافي بعدما كان قد أوشك على فقدان عقله، إثر أزمة نفسية حادة، بسبب التعذيب في زنزانة انفرادية بسجن "إيشل" عبر التلاعب بالإنارة، وإسماعه أصوات غريبة لفترات طويلة.
وتنتقد البس وجرادات، هيئة شؤون الأسرى، لعدم تنظيمها برامج تأهيل نفسي للمحررين، لكن وزير شؤون الأسرى والمحررين السابق، عيسى قراقع قال لـ"العربي الجديد"، إن الهيئة أرسلت لمركز "علاج ضحايا التعذيب" عشرات الحالات التي تطلبت علاجا نفسيا وجسديا.
قطاع غزة يضم 1000 أسير محرر منذ عام 2010
ويخفي الأسرى المحررون معاناتهم، بحسب رصد الدكتور يوسف عوض الله، مدير عيادة رفح النفسية الحكومية، والذي قال: :"المكانة الاجتماعية والنضالية للأسير، تجعله يتجنب التوجه للطبيب النفسي، وما بين 15% إلى 20% فقط هم من يقررون التوجه للطبيب، ونصفهم لا يكملون مراحل العلاج"، الأمر الذي يتسق مع نتائج استطلاع رأي غير قياسي، أجراه معد التحقيق بمشاركة 10 أسرى محررين خضعوا لفترات عزل لا تقل عن عامين، وعانوا من مشاكل وأزمات نفسية، إذ زار ثلاثة منهم طبيبا نفسيا، بينهم أسير واحد أكمل مراجعة الطبيب لأكثر من خمس جلسات، في حين أشار 8 إلى أن هذه المشاكل لاحقتهم بعد التحرر، وأكد 7 أنهم عانوا مشكلة صعوبة الاندماج في المجتمع، في حين يميل 5 إلى العزلة، وبرر الأسرى السبعة عدم ذهابهم للطبيب بأن الأمر قد ينقص من شأنهم، وأنهم شعروا بالتحسن عقب الإفراج عنهم، إلا أن عبد الناصر فروانة رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى (حكومية) أكد معاناة العشرات من الأسرى المحررين من أعراض نفسية، في حين قال قراقع إن 100 أسير عانوا مشكلات نفسية قاسية بعد التحرر، بينهم 50 من محرري صفقة وفاء الأحرار "شاليط"، والذين بلغ عددهم 1027 أسيراً، وهو ما يؤكده الاختصاصي النفسي عوض الله، موضحا أن معظم الأسرى المحررين يعانون مشاكل نفسية مزمنة، مثل الشكوك، والضلالات "القلق والخوف من المحيطين"، واضطرابات النوم، وهلاوس سمعية وبصرية.
ويضم قطاع غزة 1000 أسير محرر منذ عام 2010 وفق فروانة الذي يضيف أن ما يزيد على 95% من الأسرى ممن خاضوا تجارب العزل الانفرادي في زنازين الاحتلال عانوا من مشاكل واضطرابات نفسية متفاوتة خلال الأسر وبعده، وهو ما يعيده قراقع إلى معاناة زنازين العزل الانفرادي التي يصفها بـ "قبور للأحياء"، مؤكدا أنها صممت من أجل تعذيب الأسير نفسيا وكسر إرادته، موضحا أنه تابع نتائج دراسة أجرتها وزارة الصحة عام 2018 بعد فحوصات طبية لـ 1042 أسيراً وأسيرة من المحررين، عبر لجنة طبية مختصة، وتوصلت إلى أن جميع الأسرى ممن خضعوا للفحص الطبي يعانون من أعراض نفسية تفاوتت بين العصبية والتوتر وعدم الرضا، والاكتئاب، وانفصام الشخصية، ومعاناة عدد آخر من أعراض عصبية والصرع.
قبور الأحياء
يعد التأثير على نفسية الأسير وضرب قواه العقلية أهم أهداف العزل، بحسب قراقع وفروانة اللذين أكدا على رصد المشاكل التي عاناها الأسرى بعد تحررهم، إذ فقد 30 أسيرا قدرتهم على الإدراك وغابت عقولهم.
ويقسم فروانة عزل الأسرى إلى ثلاثة أنواع، الأول عزل الضغط، الذي يمارس على الأسير في الأسابيع الأولى من اعتقاله، أثناء فترات التحقيق، ويتم في زنزانة ضيقة، لانتزاع اعترافاته، والثاني عزل عقابي، للأسرى ممن نفذوا عمليات فدائية، مثل الأسير عبد الهادي غنيم الذي قضى أكثر من 26 عاماً في العزل، والنوع الثالث عزل القادة الكبار والمؤثرين مثل الأسيرين مروان البرغوثي، وحسن سلامة، لتقليل مخالطتهم لباقي الأسرى.
وتعرض 95% من الأسرى لأصناف مختلفة من التعذيب النفسي والجسدي، بحسب تقرير صادر عن نادي الأسير في 25 يونيو/حزيران من عام 2020، بينما نفذت قوات الاحتلال مليون حالة اعتقال بحق الفلسطينيين منذ عام 1967، ويتواجد حاليا في السجون 4400 أسير، وأكثر من 75% من الأسرى خاضوا تجربة العزل لفترات وأشكال متفاوتة وفق فروانة، ومنذ عام 1967 وحتى بداية العام الجاري استشهد 227 أسيراً فلسطينيا في السجون الإسرائيلية، بينهم 73 بسبب التعذيب، و72 جراء الإهمال الطبي، و75 بالقتل العمد "استهداف الأسير بشكل مباشر"، و7 بسبب القمع وإطلاق النار المباشر "استهداف مجموعة من الأسرى"، وفق إحصاء صادر في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، عن وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين.
أقسى درجات العزل
يتم ضرب الأسير والحط من كرامته أمام أسرته لحظة الاعتقال، بينما يتم التهديد بإحضار أمه أو أخته وزوجته إلى التحقيق، ما يؤثر على نفسيته ويشعره بتأنيب ضمير لأنه اضر بأهله، بحسب الكاتب والباحث في شؤون الأسرى حسن جبر، ويعد العزل العقابي أقسى درجات العزل، التي عاشها الأسير أبو حسنة إذ تم وضعه عارياً في زنزانة صغيرة تسمح له بالجلوس في وضع "القرفصاء"، مع حرمانه من النوم عبر الضرب على الباب باستمرار، وسكب مياه باردة وأخرى ساخنة على جسده، وتتسبب تلك الانتهاكات في مشاكل نفسية وعصبية بالغة للأسرى، إذ يقول قراقع أن 15 أسيراً مصابين بأمراض نفسية يقبعون حاليا في سجون الاحتلال في زنازین انفرادیة، أبرزهم الأسیر رامز دار الحج، والمعتقل منذ 11 عاماً، والأسير خضر أمین ضبایا المحكوم 16 عاماً ونصفا، وهو ما يعد انتهاكا للحق في السلامة الجسدية، بحسب توضيح المحامي في مركز الميزان لحقوق الإنسان، يحيى محارب الذي قال إن سلطات الاحتلال تخالف البند "ج" من المادة الثالثة من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تجرم الاعتداء على الكرامة الشخصية، وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، وعلى الرغم من تلك الانتهاكات إلا أن أربعة منظمات حقوقية، تقدمت بستة بلاغات إلى المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية في سبتمبر/أيلول عام 2017، للمطالبة بالتحقيق في تعذيب المعتقلين الفلسطينيين ومخالفة قواعد القانون الدولي الإنساني، غير أنها لم تتلق ردا حتى اليوم.