تغيرت ملامح رب العائلة الغزي، خالد جاد الله، بعد أن سمع ضجيج كسارة الحجارة المجاور لبيته، إذ انتابه شعور بالقلق، بعد تغير أنفاس طفله، وصدور صوت صفير من حنجرته. قفز الأب مسرعاً، وأحضر جهازا طبيا خاصا، لمساعدة صغيره على التنفس بشكل أفضل، وتوسيع الشعب الهوائية.
ينفق جاد الله 1100 شيكل (284 دولارا أميركيا)، من راتبه الشهري المقدر بألفي شيكل، على مصاريف علاج ابنه المعوق مصعب، الذي زادت مشاكله الصحية بسبب غبار الكسارة، خاصة أن قدرته على مقاومة الأمراض ضعيفة.
اقرأ أيضا: خندق مصر المائي..3 كوارث بيئية وصحية تهدد فلسطينيي رفح
انتشار الكسارات في غزة
وفق جولة لمعد التحقيق، في مناطق متفرقة جنوب قطاع غزة، من بينها بلدة الشوكة التي يبلغ مساحتها 22 ألف دونم ويقطنها 6 آلاف شخص، تبين وجود 5 كسارات على أراضيها تعمل في إنتاج الحصمة (الحجارة الصغيرة) من مخلفات المباني، لتوفير سلعة مهمة لقطاع البناء، يمنعها الاحتلال الإسرائيلي من الدخول للقطاع المحاصر.
غير أن معد التحقيق ومن خلال سلسلة من الزيارات وجد أن ما بين 50% إلى 60% من سكان المناطق التي تقع في محيط دائرة قطرها مئة متر من وجود كل كسارة في مختلف مناطق جنوب القطاع (مساحته 120 كيلومترا مربعا وعدد السكان 600 ألف نسمة ويشمل محافظتي رفح وخان يونس)، يعانون من مشاكل في الجهاز التنفسي، أبرزها التهابات الجيوب الأنفية المزمن، والسعال، وحساسية الصدر، بموجب تقارير صحية صادرة عن عيادات طبية ومراكز صحية حكومية وتابعة لوكالة الغوث (الأنروا).
لا تصلح للخرسانة
على بعد أقل من 20 مترا من كسارة تعمل ما لا يقل عن 10 ساعات يومياً، يقع منزل الأربعيني أحمد سالم، الذي يحرص على إغلاق نوافذ منزله بإحكام، ورشها بالمياه من الخارج، في محاولة لمنع نفاذ غبار الحجارة المتكسرة إلى الداخل.
يؤكد سالم أنهم منذ عرفوا الكسارات، وبدأت إحداها بالعمل على بعد 20 مترا فقط من منزله وحياتهم باتت قاسية، والأمراض سكنت أجسادهم، فالتهاب الجيوب الأنفية المزمن، والسعال الدائم، وحساسية العين، يعاني منها كل أفراد الأسرة تقريباً. وتوجد في منطقة الشوكة التي يقطنها سالم أربع كسارات أخرى، تقدر أحجامها ما بين الكبيرة والمتوسطة، وتعمل معظم فترات النهار، خاصة في حال كانت الكهرباء موصولة.
يمسك سالم بصور أشعة، وأدوية وعقاقير طبية، يتناولها أفراد أسرته، ويقول "المضادات الحيوية مثل zinnat، ومهدئات سعال "Chlorohistol"، وبخاخات للأنف "Nose care"، تعالج الأمراض التي سببها غبار الكسارات، وبعضها يصرف مجاناً من عيادات تابعة لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين (أنروا)، وأنواع أخرى يتم شراؤها من الصيدليات مثل البخاخ والمضاد الحيوي، ويتراوح أسعارها ما بين 20-30 شيكلا من (5-8 دولارات)"، متابعا "الكسارات تقتلنا ببطء، ناهيك عن التلوث الضوضائي الذي تسببه".
اقرأ أيضا: كاميرات المراقبة.. أجهزة مموهة ترصدُ المقاومين في الضفة الغربية
الموت الصامت
تصف زوجة مريض الربو فتحي جبارة، معاناة أسرتها، من الكسارة المجاورة لمنزلهم، بالموت الصامت، وتقول "الغبار يلاحقنا في كل مكان، الملابس ممتلئة به، والطعام لا يخلو منه، والأثاث ننظفه مرتين كل يوم دون فائدة، نخشى أن تكون الحجارة التي يجري تكسيرها ناتجة عن مبانٍ تم قصفها، فقد تحوي مواد مشعة من بقايا الصواريخ الإسرائيلية، وهناك ثلاث إصابات بمرض السرطان، ظهرت في المنطقة بعد الحرب الأخيرة، أحد المصابين توفّي والآخران يصارعان الموت".
تضيف لـ"العربي الجديد"، بحسرة: "زوجي منذ أسبوعين في الفراش بسبب هذا الغبار اللعين، السعال لا يفارقه، ووضعه الصحي متردّ".
ملاك الكسارات: نحاول تقليل الأضرار
وسط الضجيج وبين ثنايا الغبار الأبيض، يقف علي العبسي، مالك إحدى الكسارات في منطقة النصر، جنوب خان يونس، مرتديا كمامة طبية، يراقب عماله، بينما يرمون الحجارة في قمع الكسارة. لا يتوقف العبسي عن طلب إحكام وضع الكمامات على وجوه العمال، بينما يطلب من عامل آخر عدم التوقف عن رش المياه على الطوب، للحد من تصاعد الغبار.
يؤكد العبسي أن الكسارات لم تكن يوماً خيار الغزيين، إذ تمت صناعتها محليا، لتوفير بديل لمواد ممنوعة (الحصمة)، قائلا "يتمنى أصحاب مصانع الطوب، استبدال الحصمة المصنعة بالجاهزة النموذجية، التي تمنع إسرائيل إدخالها، لأن كل كمية من الإسمنت، يحصل عليها أصحاب مصانع الطوب، من وزارة الاقتصاد الفلسطينية، بعد تسجيل وانتظار طويل، تحتاج إلى خمس أو ست أضعافها من الحصمة، ليتم استخدامها في تصنيع الطوب اللازم للبناء".
وقال العبسي لـ"العربي الجديد" إن قدرة الكسارات الإنتاجية من الحصمة تتراوح يوميا ما بين 20-50 طنا، بحسب حجمها، وحسب توفر مخلفات المباني المقصوفة، مؤكدا أنهم يحاولون تقليل أضرارها برش المياه وإقامة أسوار شبكية ناعمة، تحيط بمناطق عمل الكسارات.
أزمة التراخيص
يشعر منصور بريك رئيس بلدية الشوكة، بخطورة الكسارات الخمسة التي تقع على أراضي بلدته، لكنه لا يرى بديلا لها في ظل منع مواد البناء، وحاجة القطاع لكميات كبيرة منها. يؤكد بريك أن الكسارات غير قانونية ولم تمنح تراخيص، لكن يسمح لها بالعمل كحالة مؤقتة، إلى حين رفع الحصار، وللمساعدة في التخلص من آلاف الأطنان من ركام المنازل التي تم تدميرها، بتحويلها إلى مادة يمكن الاستفادة منها.
وكشف بريك لـ"العربي الجديد"، أن البلدية والجهات المعنية حاولت وقف الكسارات عن العمل وإغلاقها، لكن النتيجة كانت تزايد وتعمق أزمة مواد البناء، وارتفاع أسعار الطوب. وأكد أن البلدية بدأت بالتعامل مع الكسارات وتنظيم عملها، وفرضت شروطا على ملاكها لتخفيف ضررها، من بينها منع العمل في الليل، وإقامة سياج معدني مرتفع، لمنع تطاير الغبار خارج حدود المصنع، واستمرار رش المياه، وإلباس العمال كمامات، وتغييرها كل ثماني ساعات.
وأوضح أن البلدية تتعامل بجدية مع كل شكوى تقدم، وتلزم صاحب الكسارة بتوفير حلول مرضية للسكان، وهي تدرس بجدية عدة مقترحات لزيادة الأمان، منها زراعة حزام من الأشجار التي تمنع تطاير الغبار وانتشاره.
مهنة شاقة
يتجول الشاب محمد أبو جزر، في شوارع خان يونس جنوب غزة، باحثاً عن الطوب والحجارة لجمعها، وبيعها لأصحاب الكسارات. أبو جزر (21 عاما)، أكد أنه عمل لعام كامل في الكسارة، لكنه أصيب بالربو وحساسية الصدر من شدة الغبار، وقرر التوقف عن العمل، واتفق مع مالك الكسارة على جلب الطوب وبيعه له.
وأوضح أنه يستقل عربته في الصباح، ويتجول باحثاً عن الطوب والحجارة، وكلما ملأ عربة توجه بها للمصنع وباعها مقابل عشرين شيكلا (خمسة دولارات)، ومن ثم يعود لتعبئة غيرها، وفي اليوم الواحد ينجح في تعبئة ما بين 2-3 عربات.
اقرأ أيضا: بالفيديو.."العربي الجديد" يكشف تجارة التقارير الطبية الكاذبة في الأردن
مخلفات المباني تنتج "حصمة" رديئة
يجزم الدكتور خالد الهور، مسؤول الطب الوقائي في مدينة رفح، بخطورة الكسارات على صحة الغزيين، خاصة أن الغبار الناجم عنها يحوي مواد خطرة وربما مسرطنة، بعضها يبقى عالقا في الصدور على حد قوله، لكن التكدس العمراني وصغر مساحة غزة لا يجعل من أي منطقة في غزة بعيدة عنها.
وأوضح الهور لـ"العربي الجديد"، أن قسم الطب الوقائي، التابع لوزارة الصحة، يتحرك بناء على شكاوى المواطنين، ويفرض على أصحاب الكسارات وضع أسوار لا يقل طولها عن ستة أمتار، ورش مياه، قائلا "قد نوصي بنقل بعض الكسارات إلى أماكن بعيدة إذا ما وجدناها ملاصقة لمناطق مكتظة".
وفي ما يتعلق بأعداد المرضى ممن يصابون بمشاكل صحية من جراء الكسارات، أكد الهور انتشار أمراض الجهاز التنفسي، والعيون، في محيط الكسارات، لكن حصر أعداد المرضى غير متاح في الوقت الحالي، "لعدم إجراء مسح شامل، من قبل وزارة الصحة حول آثارها".
ويرفض المهندس فادي جمعة، مدير شركة مقاولات في جنوب قطاع غزة، استخدام الحصمة التي تنتج عن الكسارات في إنشاء المباني الجديدة، أو إدخالها في عمليات تصنيع الخرسانة المسلحة، لأنها عبارة عن مخلفات مباني مليئة بالجير والإسمنت المتفاعل، وبعضها هش، ولا تصلح هندسياً، مقارنا بين الحصمة المخصصة لتصنيع الخرسانة المسلحة (الباطون المسلح) والتي هي صخرية، يتم في الغالب استخراجها من جبال الضفة الغربية المحتلة، وتصل القطاع من خلال المعابر، قائلا "أثبتت كل الفحوصات عدم صلاحيتها، كونها تضم عدة عناصر سبق وتفاعلت، وتفتقد لخاصية الالتصاق المطلوبة، وبعضها جيري يمتص المياه بسرعة من الخرسانة، وهذا يؤدي لضعفها"، وبين أنها من الممكن أن تستخدم في تصنيع الطوب تجاوزا، إذا ما تم رفع نسبة الإسمنت في الطوب.
قطاع الزراعة لم يسلم
ولم يسلم قطاع الزراعة في جنوب القطاع من أضرار الكسارات، كما وثق المهندس الزراعي كمال أبو شمالة، مدير الزراعة في خان يونس، لافتا إلى أن الغبار الكثيف الناتج عنها يعلق على أوراق النباتات، ويعيق عمليات البناء الضوئي الضرورية، ما يقلل الإنتاج، ويضعف نمو الشجرة، ويصيبها بالأمراض.
وقال أبو شمالة لـ"العربي الجديد"، مشاكل الغبار تقل في الشتاء عن الصيف، نظراً لأن الأمطار تغسل الأوراق، بينما في الصيف يظل الغبار عالقا، المزارع عليه غسل ورش الأشجار، لكن ذلك يبدو صعبا مع البساتين التي تضم مئات الأشجار الكبيرة، إلا أن خطر الكسارات يستدعي ذلك.