يصف الباحث السوري في معهد الشرق الأوسط (مؤسسة أميركية غير ربحية) الدكتور كرم شعار، الاتفاقات الاستثمارية بين النظام السوري وإيران بـ"الوهمية"، إذ تم الإعلان عن العديد منها منذ عام 2011 ولكن بدون عائد حقيقي، باستثناء توصيل رسالة من النظام الإيراني إلى شعبه بالعمل على استعادة ما أنفقته طهران خلال سنوات الحرب، وهو ما يقدّره شعار، بما بين 30 ملياراً و50 مليار دولار، مستدركا :"بالمقابل يستفيد النظام السوري كذلك، عبر تقديم وعود لمؤيديه بالعمل على إعادة الإعمار، ولكن كلا الأمرين متعثران، هناك فرق بين الاستثمار الفعلي والإعلان عن الاستثمار".
وبينما وقع النظامان، اتفاقيتين، لـ"تجنب الازدواج الضريبي" و"التجارة التفضيلية" والتي توفر للبضائع الإيرانية أفضلية في تخفيضات الرسوم الجمركية، فضلًا عن بعض الاستثمارات البسيطة في مجال السياحة الدينية وقطاع الضيافة والفندقة، كان تصنيع سيارات شام في سورية والتي تنتجها شركة "سيامكو" الايرانية، أبرز صور التعاون الاقتصادي بين البلدين في مرحلة ما قبل الثورة السورية، إذ حافظ النظام على علاقات متوازنة مع إيران ودول الخليج، كما يرى الباحث والخبير الاقتصادي يونس الكريم، والذي لفت إلى توقيع 24 اتفاقا تجاريا واستثماريا إيرانيا مع نظام الأسد الابن، حتى عام 2020. ويجيب التحقيق عن سؤالين أساسيين، هل أثمرت تلك الامتيازات الاستثمارية والاتفاقات عن نتيجة حتى الآن؟ وكيف يمكن مقارنتها بنفقات الوجود الإيراني العسكري على الأراضي السورية؟
نزيف الأموال الإيرانية
تقدم طهران إلى بشار الأسد نوعين من الدعم، عسكري ومالي ويُعنى التحقيق بالمالي ومآلاته، إذ جمع معدا التحقيق تقديرات متباينة لحجم الضخ المالي الإيراني، أولها ما كشف عنه عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، حشمت الله فلاحت بيشه، والذي قدر حجم الدعم الإيراني لسورية بما بين "20 إلى 30 مليار دولار"، داعياً إلى "استرجاع هذه الأموال، ومؤكدا أن "الشعب الإيراني يجب أن يعلم أين تصرف أمواله"، وفق ما قاله في 20 مايو/أيار 2020 لموقع "اعتماد أونلاين" الإصلاحي الإيراني.
وأبرمت سورية وإيران اتفاقية تتيح لدمشق الاقتراض حتى سقف مليار دولار بفوائد ميسرة بواسطة خط ائتماني بين المصرف التجاري السوري الحكومي وبنك تنمية الصادرات الإيراني الحكومي، في يناير/كانون الثاني عام 2013، بينما نقلت صحيفة تشرين الحكومية السورية عن أديب ميالة حاكم مصرف سورية المركزي في مايو من العام ذاته، أن طهران قدمت تسهيلات ائتمانية لدمشق تصل قيمتها إلى سبعة مليارات دولار، لتمويل استيراد السلع واحتياجات سورية من النفط والمشتقات النفطية.
وتقترب قيمة الدعم الإيراني لسورية في عام 2013، من تقديرات الأمم المتحدة، للإنفاق السنوي الإيراني لمساعدة دمشق، بحسب جيسي شاهين المتحدثة باسم مبعوث الأمم المتحدة الدولي السابق إلى سورية ستيفان دي مستورا والتي قالت "تقدير الأمم المتحدة حول متوسط إنفاق إيران في سورية يعادل 6 مليارات دولار سنويا" كما ذكرت بتصريحات للصحافيين في مارس/آذار عام 2018 في مقر الأمم المتحدة، وإذا كانت إيران أنفقت هذا الرقم بشكل منتظم خلال ثمانية أعوام منذ تدخلها إلى جانب النظام في 2012 فإن الإجمالي يصل في حده الأقصى إلى 48 مليار دولار حتى العام الجاري.
امتيازات مقابل الدعم والحماية
حصر معدا التحقيق عبر المصادر المفتوحة في دمشق وطهران، أبرز الامتيازات الاستثمارية الإيرانية، ومنها على سبيل المثال اتفاقات وقّعها رئيس الوزراء السوري السابق عماد خميس خلال زيارته طهران في 19 يناير2017 في مجالات بناء مرافئ للنفط والغاز، إضافةً لإنشاء شركة إيرانية مشغلاً ثالثاً للهاتف الجوال، واستثمار الفوسفات السوري لمدة 99 سنة بعد حصول إيران على حق استخراجه من منجم خنيفيس، لكن كل هذه الاستثمارت ما عدا الفوسفات لم يتم المباشرة بأي منها إلى الآن، إذ بقيت شركتا سيريتيل وMTN المشغّلين الوحيدين للهاتف الخليوي، بينما كشف الفريق يحيى رحيم صفوي المستشار العسكري الأعلى للمرشد الإيراني علي خامنئي، في ندوة "دراسة الأزمة السورية: التطورات السياسية والميدانية"، أن "طهران تقوم بالتصدير من مناجم فوسفات سورية في الوقت الراهن"، من دون الإفصاح عن حجم هذه الصادرات، قائلا: "الجمهورية الإسلامية تحملت نفقات في سورية ويجب إعادتها، والسوريون مستعدون لدفعها من النفط والغاز والفوسفات".
وفي 26 سبتمبر/أيلول 2017، كشف أكبر زمانيان، مدير تقنيات المصب في معهد أبحاث صناعة البترول الإيراني، أن طهران ستبني مصفاة نفطية قرب حمص، بحسب ما نقلت وكالة "فارس" عن زمانيان والذي وعد بأن تكون :"الطاقة الإنتاجية للمصفاة نحو 140 ألف برميل يوميا، وإنها ستكرر النفط السوري الخفيف والثقيل" ولكن المشروع لم ينفذ منه شيء حتّى الآن، وفي سبتمبر من العام ذاته، وقّعت إيران اتفاقية مع وزارة الكهرباء السورية تنص على (بناء محطة كهرباء في محافظة اللاذقية بقدرة 540 ميغاواط، وترميم مركز التحكم الرئيسي لشبكة الكهرباء السورية في دمشق، وتأهيل محطة كهرباء محافظة دير الزور بقدرة 90 ميغاواط) إضافةً إلى اتفاقيتين بموجبهما تزوّد إيران مدينة حلب بالكهرباء عبر خمس مجموعات توليد.
وفي 25 فبراير 2018، طلب وزير النقل السوري السابق علي الحمود، من المدير العام لمرفأ اللاذقية، العمل على تشكيل فريق عمل يضم قانونيين وماليين، للتباحث مع الجانب الإيراني في إعداد مسودة عقد لإدارة محطة الحاويات في الميناء ضمن تسوية الديون المترتبة على دمشق، لكن المرفأ ما زال يُدار من قبل النظام السوري، تحت إشراف روسي، وفق ما تؤكده مصادر "العربي الجديد".
في شهر يناير الماضي وافق رئيس الوزراء السوري السابق عماد خميس على توصية اللجنة الاقتصادية بتضمين البضائع الإيرانية المخزنة والمودعة في المناطق الحرة بسورية، ومن بينها مواد الحديد والغرانيت والإسمنت الأبيض والسيراميك، بالمزايا والإعفاءات المفروضة لمدة عام واحد، بحسب ما ذكرته صحيفة "الوطن وذلك عملًا بموجب ما نصت عليه اتفاقية التجارة الحرة الموقعة بين دمشق وطهران عام 2012، والتي تهدف إلى تصريف البضائع الإيرانية في السوق السورية ومنحها أفضلية، وفقًا للباحث الاقتصادي يونس الكريم.
ومن أهم اتفاقيات إيران التي لم تُنفذ بعد، إعلان حكومة الأسد في الخامس من مايو 2020 عن تعاقدها مع طهران للتنقيب عن النفط في البوكمال بدير الزور، وفق ما جاء في جلسة لبرلمان النظام ناقشت خلالها لجنة الشؤون الاقتصادية والطاقة مشروع القانون المتضمن تصديق عقد استكشاف البترول وتنميته وإنتاجه في البلوك رقم (12).
وفي 28 يناير 2019 وقعت حكومة النظام السوري اتفاقية تعاون اقتصادي "طويل الأمد" مع إيران في مختلف المجالات لتشمل قطاعات المصارف والمالية والبناء وإعادة الإعمار، بحسب ما ذكرته وكالة سانا، وسبقها اتفاقية في 15 يناير لإنشاء 30 ألف وحدة سكنية في معظم المدن السورية على أن يتم بناء 200 ألف وحدة أخرى، بحسب صحيفة الوطن، من دون أن يتم تشييد أي مبنى، بحسب ما أكّدت ستة مصادر من دير الزور وحمص وحلب (المدن الأكثر دمارا) التقتهم "العربي الجديد"، إذ أكّد أحدهم ويعيش في حلب أن الركام وأنقاض المباني ما تزال مكانها ولم يتم إصلاح أو تشييد أي مبان جديدة، بينما أكّد موطن يعيش في مدينة حمص، أن المنطقة المدمّرة ما تزال مغلقة بالمتاريس ويُمنع على أهلها العودة إليها. وتم الإعلان عن اتفاق مشابه لبناء 200 ألف وحدة سكنية، حسب ما قال نائب رئيس جمعية المقاولين في طهران إيرج رهبر في فبراير/ شباط 2019.
لكن ما يُسمّى "الاستثمارات الإيرانية" هي في حقيقتها بديل عن ديونهم العسكرية والخطوط الائتمانية التي منحوها للنظام السوري وفق ما يوضح الدكتور أسامة قاضي، رئيس مجموعة عمل اقتصاد سورية، مضيفا أن إيران لم تجلب الأموال للبلاد وتشتري الأراضي لغرض تشغيل مشاريع عليها، بل لتحصل على امتيازات مقابل تدخّلها العسكري، وبالتالي كل ما حصلت عليه هو استرداد ديون عسكرية وغير عسكرية.
ويقدر قاضي قيمة الاستثمارات الإيرانية القائمة بأقل من 10 مليارات دولار في حدها الأقصى، موضحا أن طهران خاسرة عبر مقارنة حجم الإنفاق بما حصلت عليه فعليا، وإذا استثنينا المشاريع الضخمة التي يصعب الوصول إليها مثل السيطرة على مرفأ اللاذقية وتشغيل شركة خليوي ثالثة فإن الرقم سوف يصبح أقل ذلك، وتابع :"توجد استثمارات حصلت عليها طهران لن تسمح لها روسيا بتنفيذها، في هذه الحالة يبقى لإيران بعض المشاريع الخاصة بتشييد بنى تحتية وفي مجال الطاقة، وهذه ليست استثمارات ضخمة".
كيف انعكس الإنفاق الكبير على المصالح المتبادلة؟
تكشف البيانات الاقتصادية الإيرانية أن طهران ليست من ضمن الشركاء التجاريين الرئيسيين للنظام السوري، على الرغم من إنفاقها الكبير لصالحه، وهو ما تعترف به الجمهورية الإسلامية، معتبرة أن العلاقات الاقتصادية هي "الحلقة المفقودة" في العلاقات الثنائية، بحسب ما نشرته صحيفة "شرق" الإصلاحية نقلا عن رئيس لجنة تنمية العلاقات الاقتصادية الإيرانية مع العراق وسورية، حسن دانائي فرد، في 6 أكتوبر 2019.
طهران ليست من ضمن الشركاء التجاريين الرئيسيين للنظام السوري
وتشكل العلاقات مع إيران 3 بالمائة فقط من حجم التجارة الخارجية للنظام السوري، وذلك بعدما تراجعت المبادلات التجارية بين الطرفين من مليار دولار قبل اندلاع الأزمة السورية إلى نحو 120 مليون دولار، خلال العام الإيراني الماضي، (ابتداء من 20 مارس 2019 حتى 20 مارس 2020)، بحسب ما ذكرته صحيفة "إيران" الرسمية، في 3 سبتمبر/أيلول 2019. وانتشرت انتقادات بين أوساط إيرانية، خلال الأعوام الأخيرة، من عدم وجود مردود اقتصادي للنفوذ الإيراني في سورية، وصلت إلى حد رفع شعارات ضد النفقات الإيرانية في سورية خلال الاحتجاجات الاقتصادية الواسعة التي شهدتها إيران في خلال يناير ونوفمبر 2019، كما جاء في مقاطع فيديو نشرتها مواقع التواصل الاجتماعي.
تراجع كبير في التبادل التجاري
ثمة عوامل ومشاكل أدت إلى تراجع التبادل التجاري بين طهران ودمشق، كما أنها تحول دون تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، أهمها "مشاكل النقل البري بين إيران والعراق وسورية والتكلفة الكبيرة، المبادلات المصرفية وعدم إمكانية التحويلات المالية، وعدم تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، وانعدام معلومات ميدانية كافية عن الظروف والأوضاع الاقتصادية والتجارية في سورية، وانعدام الأمن"، وفقا لتصريحات صحافية لرئيس الغرفة التجارية المشتركة، كيوان كاشفي، والتي نشرتها وكالة "إرنا" الإيرانية الرسمية يوم 12 نوفمبر 2019.
وانقطع التواصل المصرفي بين البلدين بعد اندلاع الأزمة السورية، كما يقول المدير التنفيذي لشركة "همراهان بيشرو تجارت" الإيرانية، لوكالة "إرنا"، وعلى الرغم من توقيع البلدين في نوفمبر 2019 اتفاقية لإنشاء بنك مشترك، يتخذ من دمشق مقراً له، وفق ما أعلنه رئيس البنك المركزي الإيراني عبد الناصر همتي، لكن لم يباشر البنك عمله حتى الآن وفق مصادر التحقيق.
شكوى إيرانية من تمييز النظام السوري بين موسكو وطهران
في سياق تلك العوامل، يمكن الإشارة إلى شكوى إيرانية من تمييز النظام السوري بين طهران وموسكو في الفرص الاقتصادية، إذ أثار فلاحت بيشه الأمر، وقت أن كان رئيسا للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية البرلمانية، خلال زيارة إلى دمشق، في يناير/ كانون الثاني 2019 ، مع رئيس وزراء السابق للنظام السوري، عماد خميس، والذي خاطبه قائلا إن "إيران وروسيا حلفاء في حماية سورية، وسيظلان حليفين، لذلك يجب على الحكومة السورية توفير فرص اقتصادية سواسية للبلدين لكي لا يشعر أحد بالتمييز" وأكد فلاحت بيشه، وفقا لما أورده موقع نادي "المراسلين الشباب" التابع للتلفزيون الإيراني، أن "المساعدات الإيرانية لدمشق هي أموال الشعب الإيراني، ينبغي تسويتها في العلاقات الثنائية بين البلدين، أي من خلال رفع مستوى العلاقات الاقتصادية".