تهيمن البذور المستوردة على الزراعة التونسية رغم غلائها وقلة جودتها وكثرة أمراضها مقارنة بالأصناف المحلية التي يتم تهريبها منذ عهد الاحتلال الفرنسي، وعلى الرغم من استعادة بعضها، لكن عراقيل عديدة تحول دون تطويرها.
- يرصد محمد رجايبية، عضو الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، آثار هيمنة البذور المستوردة، في مقابل غياب الأنواع المحلية، ما يهدد الأمن الغذائي ويثقل منظومة الإنتاج بخسائر كبيرة تبدأ من اقتناء الفلاح أصنافا باهظة الثمن وقليلة الإنتاجية وكثيرة الأمراض مقارنة بالتونسية، التي تندثر، ما يخلق تبعية مستدامة للشركات المصدرة.
وتمكنت تونس من استعادة 6 آلاف صنف محلي من أميركا وإسبانيا، بالإضافة إلى 1705 أنواع من البذور كانت في أستراليا، نهاية العام الماضي، بينما لا يزال 3566 صنفا لدى جهات مختلفة، بحسب إفادة مبارك بن ناصر، المدير العام للبنك الوطني للجينات التابع لوزارة البيئة والشؤون المحلية، والذي أكد لـ"العربي الجديد"، أن التفاوض مع أستراليا بدأ في ديسمبر/ كانون الأول 2019، وكان بهدف استرجاع 3401 عينة من بذور الأعلاف، لافتا إلى أن البنك يعمل منذ سنوات على تقصي مكان العينات والبذور التونسية للعمل على استرجاعها بكافة الطرق القانونية والودية.
وتمتاز البذور التونسية بقدرتها الإنتاجية العالية وقيمتها الغذائية وتأقلمها مع الظروف المناخية القاسية، كالجفاف ودرجة الحرارة المرتفعة وملوحة الأرض، لكن عودة البذور لا تعني انتهاء المشكلة، إذ يؤكد بن ناصر اكتشاف أن بعضها كانت غير صالحة للزراعة، قائلا: "لا نعلم صراحة إن كان ذلك بقصد من البلدان التي استعدنا البذور منها حتى لا تُزرع مجددا، أم لسوء تخزينها، كما حصل مع بذور الدلاع (البطيخ)، والتي تم استرجاعها من إسبانيا ولم تنم".
نهب وإقصاء البذور المحلية
تلزم خطة العمل العالمية لصيانة الموارد الوراثية النباتية للأغذية والزراعة، التي أقرتها منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، عام 1996، الدول الموقعة عليها، ومنها تونس، بتبادل الموارد الجينية وإعادة الجينات إلى مواطنها الأصلية، وبالرغم من ذلك توجد الكمية الكبرى من البذور المنهوبة في فرنسا، التي احتلت تونس 75 عاما، وترفض الاعتراف بوجود تلك الأصناف فيها، حتى أنها تعتبر الخريطة الفلاحية والمائية لتونس ضمن المعطيات فائقة السرية، ولا تسمح بالاطلاع عليها، وفق رجايبية، الذي قال لـ"العربي الجديد": "احتياطي تونس من الحبوب يغطي بالكاد الاستهلاك لمدة شهرين ونصف".
95% من زراعة الخضروات و70% من زراعة الحبوب في تونس تعتمد على البذور المستوردة
وخلال الحرب العالمية الثانية تم تهريب بذور تونسية إلى ألمانيا وإيطاليا خلال فترة احتلال قوات المحور، ولم يتوقف الأمر، في ظل سهولة خروج البذور عبر أي زائر أو حتى طلاب تونسيين يسافرون لإنجاز بحوثهم الجامعية في بلدان المهجر، إذ يحمل الواحد منهم ما بين 50 و100 غرام من البذور، وفق بن ناصر، وهو ما يؤيده البرلماني معز بالحاج رحومة، رئيس لجنة الفلاحة والأمن الغذائي والتجارة والخدمات ذات الصلة بالبرلمان التونسي، والذي أكد على رصد خروج البذور المحلية بحجة الأبحاث العلمية، ما أثار قلق اللجنة بسبب عدم وجود إطار قانوني ينظم الأمر ويحفظ حقوق تونس في حال تطوير تلك البذور، وهو تأكيد على عشوائية قطاع البذور، وفق ما جاء في جلسات الاستماع بالبرلمان، التي شارك فيها باحثون من البنك الوطني للجينات وعدة مسؤولين في وزارة الفلاحة، ومختصون في مجال البذور، حسبما يقول رحومة لـ"العربي الجديد".
ولم تقتصر طرق إقصاء الأصناف المحلية على التهريب، بحسب محمد الأسعد بن صالح، رئيس الغرفة الوطنية للزراعات الكبرى التابعة للنقابة الجهوية للفلاحين بصفاقس، الذي لفت إلى أن باحثين تونسيين عملوا على تحسين وتطوير بعض الأصناف الأجنبية، والترويج على أنها تونسية، مثل أصناف القمح "كريم، رزاق، وخيار"، مع أن البذور الأصلية للحبوب التونسية هي "محمودي، بيدي، جناح خطيفة، مساكني، بسكري، شيلي".
مردودية وقيمة غذائية عالية
تقع تونس في المرتبة 59 من بين 113 بلدا شملها مؤشر الأمن الغذائي لعام 2020، وهو مؤشر خطير في ظل تزايد التبعية للخارج بما يهدد الأمن الزراعي، كما يقول الفلاح الستيني حسن الشتيوي، الذي عمل على بذور القمح والشعير وأنتج حبة الشتيوي، وقد مكنته بذرة واحدة من الحصول على 86 سنبلة عوضا عن 19 سنبلة في الأصناف المستوردة، وكذلك صنف أبو بكر البركة، وهي بذرة برية اكتشف أنها تنتج 194 سنبلة في الحبة الواحدة، وهي عملية شبه مستحيلة في بذور القمح المستورد، مبينا أن القمح التونسي أنتج 150 غراما، أي أكثر بـ15 مرة من المستورد.
تقع تونس في المرتبة 59 من بين 113 بلداً شملها مؤشر الأمن الغذائي
ويؤكد بن ناصر أن حبوب القمح التونسية أفضل إنتاجا وذات قيمة غذائية عالية، إذ تحتوي حبة القمح على بروتينات بنسبة 18%، بخلاف البذور الأجنبية المحسنة التي تقاوم الجفاف نسبيا لكن قيمتها الغذائية أقل من الأصلية. وهو ما لاحظه محمد الأسعد بن صالح، رئيس الغرفة الوطنية للزراعات الكبرى، عقب زراعته لصنف المساكني، مؤكدا أن إنتاجه يصل إلى ضعف إنتاج المستورد.
تكريس التبعية للخارج
بلغ معدل اعتماد تونس على الواردات من الحبوب 65.7% في العام 2018، بينما كان 61.2% في 2017، و67.7% في عام 2016، وفق ما أكدته دراسة استشرافية حول الأمن الغذائي وتنمية الصادرات صادرة عن المرصد الوطني للفلاحة التابع لوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، في فبراير/ شباط 2019. ونظرا لمحدودية الإنتاج المحلي من القمح الصلب والقمح اللين والشعير والذرة، تتجاوز نسبة الاستيراد 60% من الاحيتاجات في بعض المواسم، وفق الدراسة ذاتها.
ويروج وكلاء محليون يعملون مع شركات البذور والأدوية الزراعية لمنتجاتهم مقابل وعود للفلاحين بالإنتاج الوفير من بعض الأصناف، مثل البرتقال، الذي جُلبت بذوره من إسبانيا، بيد أنها كانت مصابة بأمراض مثل تريستيزا (يتسبب في ظهور حفر في جذوع وسيقان أشجار الحمضيات)، والذي ظهر في خمسينيات القرن الماضي بأميركا وإسبانيا، ولم يكن موجودا في تونس سابقا، بحسب إفادة الفلاح مكي بالرحومة، الذي يملك مشروعا زراعيا بيولوجيا، وهو مهتم بزراعة البذور المحلية، مؤكدا أنه توصل إلى ذلك من خلال المعاينات التي قام بها في عدة ضيعات فلاحية في بني خلاد ومنزل بوزلفة بمحافظة نابل، شمال شرق تونس.
ويكمن الإشكال أكثر في بذور الخضر، وفق ما يقول رجايبية، مضيفا أن 95% من زراعة الخضروات و70% من زراعة الحبوب في تونس تعتمد على البذور المستوردة. وهو ما أفقد الخضر القيم الغذائية الموجودة في الأصلية، حسب بن ناصر، مؤكدا أن بعض الأصناف الأجنبية من الزيتون، وخاصة الإسباني، تشكل خطرا على الزراعات المحلية، لأنها قد تكون ناقلة للأمراض، في ظل مداواتها باستمرار، فضلا عن إضرارها بالتربة.
واتجه مزارعون إلى شتلات الزيتون الإسباني، وفق الفلاح أنور البوبكري، وهو صاحب شركة فلاحية في ولاية قابس، جنوب تونس، وناشط بجمعية التنمية المستدامة في تونس (غير حكومية تهدف لتعزيز الوعي البيئي)، والذي شاهد خلال زياراته لعدة مناطق بالوسط التونسي آلاف الأشجار من الزيتون الإسباني، مؤكدا لـ"العربي الجديد"، أن تلك الأنواع تتطلب كميات كبيرة من المياه، ما يتسبب بإهدار المائدة المائية.
الحاجة لمشروع قانون وقرار سياسي
يحوي البنك الوطني للجينات 45 ألف عينة من البذور التونسية، من بينها 100 صنف من القمح الصلب، و102 من أصناف الزيتون المحلي، وفق بن ناصر، الذي أكد على أن بنك الجينات بدأ بتخزين 920 كيلوغراما عند تأسيسه في عام 2007، لافتا إلى إكثار البذور لصالح الفلاحين عند الطلب، إذ تم توفير 25 طنا من بذور أصناف القمح المحلية للمزارعين.
بالمقابل، فشل باحثون تونسيون في تحسين بذور أجنبية واستغلالها في الزراعات السقوية، مثل الدلاع والطماطم والفلفل، وفق عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الفلاحين والصيد البحري شكري الرزقي، الذي يرجع الأمر إلى ضعف البحث العلمي في تونس، قائلا: "الميزانية المرصودة للبحث العلمي في تونس غير كافية، إذ حددت في عام 2020 بـ9.821 ملايين دينار تونسي (3.637.407 دولار أميركي)، ما يعني 1.9% من ميزانية وزارة الفلاحة".
وبسبب غياب القدرة على تطوير تلك البذور، يأمل الطيب رمضان، الخبير الزراعي ومدير مركز التكوين المهني الفلاحي التابع لوزارة الفلاحة، في دعم المزارعين التونسيين علميا وفنيا لاستخدام البذور المحلية ووضع حد لتهريبها، وهو ما يحتاج إلى قرار سياسي وتشريع لمواجهة الظاهرة، طالما الخبرات والكفاءات المختصة موجودة في تونس، حسبما يقول بن ناصر، مضيفا: "لو تحرك الساسة لتوفير محددات الأمن الغذائي في الحبوب والأعلاف، يمكن لتونس تصديرها بدل الاستيراد".
ويعمل البنك الوطني للجينات على إعداد مشروع قانون لحماية البذور المحلية والموارد الجينية، كما يقول المدير العام، مشيرا إلى أنه قدم مداخلة في البرلمان التونسي، في يناير/ كانون الثاني 2020، حول دور بنك الجينات في حفظ البذور من الاندثار وضرورة سن مشروع قانون لوقف تهريب البذور المحلية ومعاقبة المخالفين، والتسريع بتكوين لجنة وطنية من مختلف الخبراء والباحثين تعمل على عينات البذور المحلية. وهو ما يؤكده البرلماني رحومة، مشيرا إلى أن لجنة الفلاحة والأمن الغذائي بالبرلمان، ستعمل بالتنسيق مع بنك الجينات على مشروع القانون، فضلا عن إلحاق بنك الجينات بوزارة الفلاحة بدلا من البيئة، خاصة أن عمله يتكامل أكثر مع وزارة الفلاحة لتحقيق الأمن الغذائي للتونسيين.