"سيرياذا" بفيتربو.. حكايات بلدة إيطالية على هامش المأساة السورية

24 يوليو 2015
المدينة تعد مقصداً للسياح الأوروبيين (Getty)
+ الخط -


قالت لي ماريا نيكوليتا، منظمة لقاء "سيرياذا" في فيتربو، إن الحرارة التي تضرب المدينة الإيطالية الصغيرة، هذه الأيام، لم تحصل منذ نحو 80 عاماً! لاحظت أن لندن وباريس وفرانكفورت وروما، وغيرها من العواصم والمدن الأوروبية الكبرى، تتحدث عن درجات حرارة قياسية.. أيضاً. فما الذي يجري؟ لا أحد يعرف بالضبط. شيء ما يتغير في حرارة الأرض.

بعضهم يقول إنه ثقب الأوزون وبعض آخر يقول إنه الانحباس الحراري، إذ يحتجز غاز ثاني أوكسيد الكربون جانباً من أشعة الشمس التي ينبغي أن تتسرب إلى الفضاء الخارجي، وبذلك تحافظ الأرض على توازن بين الحرارة التي تصلها وتلك التي تسرّبها. أياً يكن السبب فإن الحرارة عالية جداً في مدينة فيتربو الإيطالية الصغيرة، حيث يعقد لقاء يضم عدداً من النشطاء الحقوقيين والشعراء والصحافيين الميدانيين ممن يعبرون عن أطياف مختلفة من الحياة الاجتماعية والسياسية السورية.

في مبنى بلدية المدينة، التي لا يتجاوز عدد سكانها 70 ألف مواطن، كان جمعنا الصغير يرشح عرقاً. لم تنفع المراوح الموزَّعة على أربعة أركان القاعة المحاطة بصور الباباوات والشخصيات الأهلية والسياسية التي عرفتها فيتربو في القرون الوسطى، في تخفيف درجة الحرارة. الخروج الى الشوارع المبلَّطة بحجارة سود، أصبحت لامعة ومصقولة من فرط ما داستها الأقدام، مغامرة بكل معنى الكلمة. هناك ما يشبه حالة حظر التجوال نهاراً، لكن عليك أن ترى المدينة ليلاً لتعرف كم هي عامرة بالناس والحركة والأجساد المفعمة بالشباب والحياة.

استغرقت رحلتي من روما إلى فيتربو ساعة ونصف الساعة. سألني الشاب الذي أقلني من مطار روما ما إذا كنت أفضل أن نسلك الأوتوستراد أو الطريق القديمة؟ قلت له: الأسرع؟ فقال: الطريق القديمة! لم أفهم السبب، لأن إنجليزية الشاب كانت محدودة جداً، غير أني قدَّرت أن الطرق القديمة تمرُّ بين البلدات والقرى الداخلية ولذلك هي مختصرة. أراد السائق الشاب، وهو متطوّع في جمعية كافيينا الثقافية التي تشرف على شؤون اللقاء اللوجستية، أن يرينا، كذلك، جانباً من الريف الإيطالي.

قد لا يعرف قراء العربية الكثير عن فيتربو، ولكنهم يعرفون توسكانا.. أو اسمها، أو زيت زيتونها، إنهما تنتميان إلى إقليم جغرافي واحد، في وسط إيطاليا، وتقعان في مقاطعتين متجاورتين.

أينما تلفَّت في مقر بلدية فيتربو تجد رسومات تذكّرك بأعمال عصر النهضة.. أو القرون الوسطى، إذ لم يشع مصطلح "عصر النهضة" إلا في القرن التاسع عشر، ليصف تلك الفترة التي شهدت تناقضاً مذهلاً في حياة الإيطاليين: ثراء فاحش للباباوات والتجار وملاك الأراضي، وفقر وجهل وجوع يرزح تحت وطأته عامة الناس.

من فترة مظلمة، بالنسبة للغالبية العظمى من السكان، أشرقت شمس النهضة الفنية والأدبية. بالوسع أن ترى الباباوات الذين تعاقبوا على فيتربو في اللوحات الجدارية التي تزين قاعات المقر البلدي. وبوسعك أن ترى تماثيل لأسود وأنت تدخل المبنى، وأنت تتجول في الأروقة. ولكن هذه الأسود المنحوتة حاملة علماً أو صليباً، أو متقابلة على نافورة ماء تتوسطها نخلة، لم تذكِّر السوريين الذين جاؤوا لبحث فصول إلياذتهم في هذه البلدة الإيطالية الهادئة، بـ "أسد" بلادهم. فلا تسيل الدماء من أشداق هذه الأسود الحجرية.

الكاردينال وحسن الوزان
على جدار في القاعة الأولى في مبنى البلدية، التي عقدنا فيها الاجتماعات "الإلياذية"، كانت هناك لوحة كبيرة تصوّر رجل دين ذا لحية شيباء طويلة وأمامه كتاب. هذا هو أحد أبناء فيتربو البسطاء الذي ارتقى في السلم الكنسي إلى مرتبة كاردينال وفي الدراسة العلمية الى درجة الدكتواره: أجديو دي فيتربو، الذي سيرتبط اسمه، دائماً، بحدثين، الأول رعايته للأسير السفير الحسن الوزان (ليون الأفريقي) الذي خطفه القراصنة الصقليون و"أهدوه" إلى البابا، والثاني أمره ترجمة القرآن إلى اللاتينية، وتعلّمه هو اللغة العربية على يد الوزان، الذي قام، أيضاً، بمراجعة الترجمة الثانية للقرآن إلى اللاتينية.

كان كاردينال مدينة فيتربو، التي بلغ عدد سكانها، أيام ازدهارها تلك، أكثر مما هو عليه عديدها اليوم، يريد أن يقرأ نصوص القابالا العبرية، فوجد أن الطريق إلى العبرية الميتة يمرُّ باللغة العربية الحيّة. ويبدو أن هذا كان يحدث تلك الأيام، ليس فقط للاستفادة من العربية في قراءة العبرية، ولكن أيضاً لفهم ومعرفة العثمانيين الذين اقتحموا قلب أوروبا باسم الإسلام.

المصادفات، أو الأقدار، هي التي جعلت اللقاء ممكناً بين هذين الرجلين المسلم والمسيحي على أرض المعرفة وتبادل الأفكار ولو من باب الحاجة والمصلحة، فأثمرت ترجمة لاتينية للقرآن وسجّلت باسم الوزان سفره الشهير "وصف أفريقيا" الذي وضعه باللغة الإيطالية التي أصحبت تشهد إقبالاً أدبياً.

داخل الأسوار
نزلت في بيت داخل أسوار فيتربو. ليس فندقاً بالمعنى المألوف بل غرف تؤجرها صاحبة المنزل الكبير للسياح. فاجأتني رائحة القِدَم التي فاحت من المكان. في زقاق ضيق هابط بشدة إلى الأسفل، ذكَّرني بأدراج عمَّان، كانت غرفتي التي يعود تاريخ بنائها إلى 600 عام، كما فهمت من الشاب الذي أوصلني إليها. ليس ذلك الكلام حماسة لأصل عريق. أخشاب الأعمدة الخشبية الضخمة التي تسند سقف الغرفة تقول لك إنك في مكان مرَّت عليه القرون. الكوى، فتحات التهوية، الجدران السميكة، التي انخفضت داخلها الحرارة إلى نحو عشر درجات على الأقل، تؤكد ذلك.

هذه أكبر مدينة أوروبية قروسطية لا يزال أهلها يعيشون في البيوت التي بناها أجدادهم البعيدون. داخل الأسوار مدينة كاملة تعمل وتتنفس وتتكاثر. إن كنت ممن زاروا فاس القديمة ستعرف عمّاذا أتكلم. ستعرف أيضا أن الأزقة الضيقة هي طرقاتها. البيوت العالية والمتساندة التي تصنع ظلا لشمس قوية، هي كذلك مثل فاس.

تدخل المدينة القديمة من خلال أبواب في الأسوار. لا توجد مدينة قروسطية من دون أسوار. فهي خط الدفاع الأول عن العمران والسكان. على الأبواب حرس. على الأسوار كوى ونقاط مراقبة. لا تظهر لك المدينة وأنت تقبل عليها من طريق كثيف الأشجار. هناك بحيرات تراها. مياه معدنية كان الباباوات يقصدونها للاستشفاء. ولا تزال مقصداً سياحياً مهماً يجتلب زواراً من أنحاء أوروبا لهذا السبب.

الإلياذة السورية
لا أعرف إن كانت تسمية هذا المسعى لجمع قصص المأساة السورية وتوثيقها، واستلهامها في نص أدبي طويل، مناسبة. ما هو وجه الشبه بين قصة الإلياذة وجرائم الحرب الكبرى التي دشّنها النظام السوري ضد شعبه وأقبلت عليها، بشهية، فصائل تكفيرية مثل "داعش" و"النصرة"؟ حرب طروادة وقعت بسبب الحب. فقد سبب اختطاف باريس، ابن الملك بريام، هيلين زوجة ملك إسبارطة منلاوس، والفرار بها إلى بلاده طروادة. حوصرت الأخيرة من طرف تحالف إغريقي استمرَّ عشر سنين، انتهى، ولكن خارج نص الملحمة، بحيلة الحصان الخشبي الشهيرة التي مكَّنت الإغريق من اختراق الدفاعات الطروادية وفتح أبواب المدينة للجيش المنتظر في الخارج. ليس هناك تماثل في القصة السورية والقصة الطروادية، ولكن استعارة الإلياذة صارت تعني تحويل قصص وحكايات حرب إلى ملحمة شعرية، مثلما صارت تعني شقيقتها "الأوديسة"، لهوميروس نفسه (إن كان له وجود حقيقي) الرحلة الشاقة، الطويلة، إلى الوطن وما تعترضها من مصاعب تصل حدَّ الاستحالة.

إقرأ أيضاً: سوريا.. رسم الثورة في لوحة (صور)
دلالات
المساهمون