النقد السينمائي المغربي: انطباعات لا تفكير

15 اغسطس 2018
هشام العسري: "محبوب" النقّاد المغاربة (فيسبوك)
+ الخط -
في الذكرى الـ23 لتأسيسها، عقدت "الجمعية المغربية لنقاد السينما"، في الأول من يوليو/ تموز 2018، مؤتمرًا لتجديد مكتبها. الجمعية تنظيم مهنيّ يضمّ 33 عضوًا، شارك 24 منهم في المؤتمر المذكور. جميعهم رجال، ومعظمهم يشتغلون في مجال التعليم، خصوصًا تدريس مادة الفلسفة. لذلك، يكثر استخدام مصطلح "استطيقا" في مقالاتهم المُفرطة في التنظير. 
المعاينة الفورية لعمل الجمعية تكشف حدوث تحوّلٍ كبير في الواقع السوسيولوجي للجمعيات الثقافية في المغرب. تمّ الانتقال من واقع اجتماعي ـ يرتكز على التطوّع وامتلاك الأعضاء وقتَ فراغٍ كافيًا للمبادرة (كان اسمه "النضال") ـ إلى بيئة سوسيولوجية يندر فيها التطوّع وأوقات الفراغ.

في المشهد المغربي، عدد الأفلام أكثر من عدد أعضاء المؤتمر، وعدد المقالات أقلّ منه. معدّل السنّ 45 عامًا. الأصغر سنًّا يكتبون بكثافة، بينما لدى الأكبر منهم صبر هائل في التعامل مع الإدارة وتعقيداتها، لذا فإنهم يتولّون قيادة الجمعية.

المؤتمر ذكوري، إذْ لم تحضر ناقدة واحدة، وهذا بسبب المجتمع لا الجمعية، التي هي جزء من سوسيولوجيا التنظيمات المغربية. لا بدّ من "كوتا" (محاصصة) لتقدّم النساء في المجال. هذا واقع لا أمنية. مع ذلك، فالجمعية مستمرّة في عملها كإطار مستقلّ في بيئة تنظيمية تقدّس التبعية والولاء. بفضل هذه الاستقلالية، لا يُشبه مؤتمر الجمعية مؤتمرات "اتّحاد الكتاب"، حيث تحلّ الكراسي محلّ الكلمات في التخاطب.

في مناقشات المؤتمر الهادفة إلى تطوير عمل الجمعية، تعكس المقترحات المغرقة في التفاؤل حجم الآمال المعقودة على التنظيم للمساهمة في تطوير الحقل السينمائي. للتدليل على تأثير الجمعية، يُذكر أن المخرجين الشباب المغاربة الحاصلين على جوائز الجمعية بداية هذا القرن شقّوا طريقهم بقوة. يسهل على المخرج الذي يرحب به النقاد أن يستمر ويُخرج. الأفلام التي يتجاهلها النقد تبقى يتيمة، والتي يُكتب عنها "تُخلّد" وتصير مرجعًا للـ"سينفيليين".
التفكير النقدي ضروري لتطور السينما، لكن الفعل النقدي مرفوض في بيئة ثقافية تقوم على الولاء والعلاقات الشخصية. كلّ فعل نقدي صريح غير مُرحّب به. كلّ ناقد مُعارِض. تقدّم وسائل الإعلام الرسمية وجهة نظر واحدة يجمّلها المغاربة في تعبير "العام زين"، أي كل شيء بخير في البلد. كلّ ملاحظة مختلفة عن "العام زين" تقود إلى الإقصاء والإبعاد. غالبًا ما يشبه إيقاع الأفلام التي يعرضها التلفزيون المغربي إيقاع نشرة الأخبار.

للتلاؤم مع هذا الإيقاع يكتب بعض النقاد المغاربة عن الأفلام الأجنبية فقط. هم بذلك يتجنّبون الكتابة عن "أفلامنا" حفاظًا على العلاقات الودية. صداقة المخرجين مُضرّة بالنقاد.

حين يكتب ناقد عن فيلم مغربي يستخدم رموزًا، كأن يقول مثلاً: "تعاني السينما المغربية ندرة السيناريوهات الجيدة"، وهو يقصد "توجد سيناريوهات سيئة كثيرة". لتجنّب الصدام، هناك من توقف عن الكتابة. لو طبّقنا معيار "الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين (Fipresci)" القائل بأن الناقد هو من يكتب 3 مقالات شهريًا على الأقل، لقَلّ عدد النقّاد.



لذلك، يفسح المجال للصوت غير الناقد ويُرحَّب بتغطية صحافية "تُطبِّل وتزُمِّر"، وهي موصوفة في المغرب بصحافة الـ"نكّافة" (Nagaffa). تظهر الـ"نكّافة" في الأعراس وهي امرأة لها وظيفتان: على مستوى الصورة، تزيِّن العرائس وتُلبِّسهنّ 7 بدلات. على مستوى الصوت، تُزغرد وتمتدح العروس وأمها بصوت مرتفع. تبرز صحافة الـ"نكّافة" في حفلي الافتتاح والاختتام في المهرجانات فقط. هي تفهم في الأناقة والبساط الأحمر، ولا تفقه شيئًا في الأفلام.

لتجنّب هذا النوع من التغطيات العابرة، لا بدّ من النقد، وهو ليس "أحبّ" أو "لا أحبّ" من دون تعليل. النقد السينمائي ليس تفاعلاً مع صورة فيسبوكية، بل حكم قيمة. أما مفردات كسيئ أو تافه أو رائع أو جميل أو مذهل أو ضعيف، فهي مجرد انطباعات.

النقد الفني متأثّر بالفلسفة وبعلوم الجمال والنفس والاجتماع. تقول المحلّلة الأسلوبية كاتي وايلز: "تصف استطيقا ـ المشتقّة من معنى الكلمة اليونانية مُدرك (Perceptive) ـ إدراك ما هو جميل واستحسانه. كما أنها تُستعمل إلى حدّ بعيد في نقد أعمال الفن، خاصةً الرسم والنحت والأدب" ("معجم الأسلوبيات"، ترجمة خالد الأشهب، "المنظمة العربية للترجمة"، الطبعة الأولى ـ بيروت، 2014 ص. 39). وبحسب "موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي" فإنّ الفلسفةَ "عزّزت الدراسة الأدبية وسلّحتها بالجرأة". ينطبق هذا على النقد السينمائي أيضًا.
يتطلّب النقد مثابرةً ونَفَسًا في زمن طغى عليه الاستسهال وانعدمت فيه النزاهة الفكرية. كلّ ناقد مُجامل لا يُعتدّ به. إنه محتاج إلى مشاهدة مركّزة لطرح فرضيات في التقديم وتفعيلها في التحليل بعرض أمثلة مستلّة من متنٍ بصريٍ محدَّد؛ كما أنه يُصدر أحكامًا مُتولِّدة من تحليل موثّق يتبع منهجًا استقرائيًا في التحليل الفيلمي للوقوف على الدال السينمائي وأبعاده الاجتماعية والنفسية والسياسية. النقد محتاج أيضًا إلى التركيز على لغة الصورة والسيميولوجيا، وإلى ميل غير عادي إلى البحث والتمحيص، وإلى اجتماع المعرفة والكفاءة التحليلية اللتين تشتغلان على فيلم محدّد لا على السينما بالجمع.

هذا هو سحر النقد السينمائي.
دلالات
المساهمون