فتى غزة المكفوف... فقدانه البصر لم يمنعه من الحياة

لم يقف الفتى الفلسطيني محمد أبو عاصي، (16 عاماً)، عاجزاً أمام فقدان نعمة البصر مبكراً، فإيمانه بالحياة مهما كانت ظروفها وعظمة أهدافه، ولدت لديه عدة مواهب وقدرات ميزته عن باقي أقرانه، وجعلت الأصحاء يشيرون إليه بالبنان، بل يتهافتون للاستماع إلى خطبه التي يتميز بإلقائها، بصوت جهور ولغة رصينة.
حكاية نجاح أبو عاصي بدأت تكتب بعد شهرين من ولادته، حينما اكتشف الأطباء بأن الطفل الجديد مصاب بتخثر في الدم أو ما يعرف بمرض "بروتين سي بروفانس"، ونتيجة لذلك تراجع مستوى النظر عنده تدريجيا، بداية في عينه اليمنى ثم اليسرى وصولا إلى فقدانه النظر كليا، مع نهاية العقد الأول من عمره.
واستهل الفتى محمد طريقه نحو التميز، بموهبة إلقاء الأناشيد الدينية داخل أسوار بيته للترويح عن أفراد عائلته وأقاربه، الذين أبدوا إعجابهم الشديد بموهبته الإنشادية، ليندفع محمد على إثر ذلك نحو الخارج، للمشاركة في الأنشطة المتنوعة التي تقام في حي الزيتون، الواقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة غزة، حيث يسكن.

اقرأ أيضاً: الصيد في غزّة.. الاستعاضة عن المراكب ببنادق متخصصة

وبكلمات ممزوجة بالثقة، يقول أبو عاصي لـ "العربي الجديد" إن مواهبه الذاتية بدأت تظهر بشكل تدريجي مع تقدم الزمن، فبعد خوضه في مجال الإنشاد لست سنوات متواصلة، وجد لديه رغبة كبيرة في حفظ القرآن وإتقانه وفق أحكام التجويد، بالإضافة إلى محاولة تقليد بعض القراء المشهورين.
رغبة الفتى الغزي في حفظ القرآن، اصطدمت بغياب نسخة ورقية من القرآن مطبوعة بلغة برايل المخصصة للمكفوفين، ولكن بعد محاولات عدة تمكن محمد من الحصول على إحدى النسخة المطبوعة خارج قطاع غزة، موزعة على ستة مجلدات، ليتمكن قبل ثلاث سنوات من حفظ القرآن كاملاً في أحد المخيمات الصيفية.
ويمتلك أبو عاصي القدرة على تقليد أصوات ستة قراء مشاهير من العالم الإسلامي والعربي، في قراءة القرآن مرتلاً ومجوداً، كعبد الباسط عبد الصمد، ومحمد صديق المنشاوي، ومشاري العفاسي، وياسر الدوسري، ومحمود الحصري، وماهر المعيقلي.
ويضيف: "كان لدي منذ الطفولة ولع شديد في الاستماع إلى الخطب الدينية سواء عبر التلفاز أو المذياع، وبعد إتمام حفظ القرآن بأحكام التجويد والتفوق في موهبة النشيد، توجهت إلى تطوير وتعزيز قدراتي في فن الخطابة والإلقاء".
وشرع محمد بتطوير قدراته في فن الخطابة بشكل ذاتي، من خلال حضور خطب الجمعة لأشهر مشايخ غزة والاستماع المكثف للدروس والحلقات الدعوية المتوفرة على الشبكة العنكبوتية، وفي منتصف العام المنصرم 2014 قرر محمد الانضمام إلى منتدى الفتى الواعظ، المهتم بتأهيل الدعاة الصاعدين وتطوير قدراتهم.

اقرأ أيضاً: اكتشاف القدس.. المدينة المحتلة تفتح ذراعيها لأبنائها للمرة الأولى
مواهب محمد المتنوعة، فتحت المجال أمامه للمشاركة في عدة مسابقات محلية وحصد العديد من الجوائز، كحصوله على المرتبة الأولى في مسابقة تنافسية حول فن الخطابة، والمركز الثاني في مسابقة نظمتها مدرسة النور والأمل للمكفوفين لموهبة النشيد، وكذلك تتويجه بالمركز الخامس في مسابقة الصوت الندي.
وأشار إلى أنه شرع قبل حلول شهر رمضان، بتسجيل العديد من الحلقات والدروس الدينية في بعض الإذاعات المحلية لكي تذاع خلال أيام شهر الصوم، في حين يمتلئ جدوله اليومي في ذات الشهر بمواعيد إلقاء الدروس في مختلف مساجد مدينة غزة، وذلك ضمن أنشطة منتدى الفتى الواعظ.
وحول طبيعة المنتدى، ذكر رئيس دائرة الوعظ في مديرية أوقاف غزة، حبيب الوحيدي، لـ "العربي الجديد" أن المشروع، الذي افتتح قبل عامين بإشراف وزارة الأوقاف، يسعى إلى تطوير مهارات الخطابة والإلقاء لدى المشاركين به، البالغ عددهم نحو 120 طالباً، من الفئات العمرية الثلاث، الابتدائية والإعدادية والثانوية.
ولم يخفِ الوحيدي إعجابه الشديد بالفتى أبو عاصي، والذي أكد أن محمد يتمتع بمواهب عدة وأسلوب خطابي مميز، بجانب علاقات اجتماعية واسعة، ستساعده في مجملها على تحقيق أحلامه وتجاوز حدود الإعاقة البصرية المصاب بها منذ صغره، مبيناً أن المشروع يعد الأول من نوعه على مستوى قطاع غزة.
ويتمنى محمد أبو عاصي أن يحصل في القريب العاجل على آلة الكتابة "بيركنز" التي تمكنه من كتابة الدروس والخطب، في مختلف المجالات التي تطلب منها، بلغة برايل، بدلاً من مشقة الحفظ، في ظل عدم مقدرته على شراء الآلة بنفسه بسبب ارتفاع ثمنها لنحو ألف دولار.
ويجيد الفتى الغزي، بجانب مواهبه السابقة، فن إلقاء الشعر، والإعداد والتقديم الإذاعي، وكذلك القدرة على التمثيل وكتابة السيناريو، التي اكتسبها في معهد النور لتأهيل المكفوفين.