فاراس... التاريخ الراقد في قاع البحيرة

06 مايو 2017
من الآثار القبطية الباقية من فاراس (Getty)
+ الخط -
اجتاحتها المياه على يد جيل لم يعرف للتاريخ قيمة، فذهبت إلى الأعماق، كانت فاراس مدينة مهمة بالقرب من أبوسمبل في جنوب مصر شمال السودان، ومركزاً تجارياً وإدارياً محورياً، تأسس ثم نما وازدهر بين عامي 2040 – 1750 قبل الميلاد. ويعتقد بعض المؤرخين أن اسم المدينة القديم كان "إبشيك"، واستدلوا على ذلك بمعبد حتحور إبشيك الذي شيد بالمنطقة عام 1550 قبل الميلاد واكتسب اسمه منها. وكان يوجد بالمدينة أيضا معبد لتوت عنخ آمون.
بسبب موقعها الاستراتيجي على طرق التجارة، دارت حول المدينة نزاعات وحروب، فقد تنازعها النوبيون والمصريون وادعى كلٌّ ملكيتها. ومع صعود مملكة مروي وطرد الحكومة المصرية من كوش، اكتسبت مدينة فاراس مكانة بارزة بوصفها مركزاً للتجارة، ثم جاءت المسيحية لتصبح المدينة عاصمة للأساقفة النوبيين، ومع انتشار المسيحية حولها ازدادت أهمية فاراس الإدارية والدينية.
يقول الأثريون عن المصريين في تلك الفترة إنهم كانوا يشيدون المباني الضخمة في العديد من المواقع، وتدل آثارهم على أن هذه كانت وسيلتهم للبقاء والنجاة لفترات طويلة في تلك العصور. وكانت مدينة فاراس إحدى العلامات على صحة ذلك، فالموقع والمدينة كانا في غاية الجمال بالأبنية البيضاء المشيدة بالحجر الجيري، والقصور التي كانت تلمع كالجواهر في الشمس وتراها القوافل على بعد أميال.
في الوثائق القديمة أطلق عليها باكوراس وباشوراس أيضا، وفي الفترة المسيحية وتأسيس أسقفية فاراس انتشرت الكنائس، وتم الكشف عن بقايا ست كنائس في البلدة، وأظهرت الحفريات العديد من محلات بيع الأواني والمصنوعات الفخارية التي كانت مزدهرة آنذاك، والتي تحمل أيقونات ومنحوتات دينية مسيحية.
كان أهم اكتشاف أثري من العصر المسيحي في فاراس هو كنيسة الصخرة (The Rock Chapel) وكاتدرائية المدينة التي تعود للفترة النوبية المسيحية. وقد زينت جدران الكاتدرائية بلوحات تحكي الروايات التوراتية المعقدة، إلى جانب صور القادة والمواطنين المشهورين بالمدينة مثل بورتيتس. هذه اللوحات صنعت من الجص الجاف على الطراز البيزنطي القبطي، وتعد من أكثر الأمثلة روعة على الفن البيزنطي في ذلك العهد.
أسدل الستار على تاريخ فاراس وجغرافيتها فجأة في سنة 1964، عندما غمرتها مياه بحيرة ناصر، ضمن أعمال بناء السد العالي؛ فرقدت المدينة، التي ازدهرت وعاشت قروناً عامرة، في قاع البحيرة. لكن لحسن الحظ ؛ فإن فريقاً بولندياً من علماء الآثار قام بحفر الموقع قبل تدميره وإغراقه، وأزالوا الجدران المنحوتة والمرسومة للكاتدرائية وكثيراً من القطع الأثرية القديمة والفخاريات النوبية التي كانت تملأ مقبرة المدينة.
هذه الأعمال الفنية التي تم إنقاذها من براثن الدمار معروضة الآن في متاحف وارسو في بولندا والخرطوم في السودان، ورغم أن الأمم المتحدة تحركت لإنقاذ معبد كلابشة الفرعوني من براثن الماء ونقلته في عملية هندسية أثرية ضخمة إلى أراض مرتفعة بعيدا عن الماء والبحيرة؛ فإن مدينة فاراس لم تنل الحظ نفسه، وتركوها للغرق ضمن العديد من الآثار الإنسانية التي لم تجد من يحنو عليها.
المساهمون