مسائل عديدة يطرحها "عن الآباء والأبناء" (2017) لطلال ديركي، سينمائيًا وفنيًا وثقافيًا وفكريًا وأخلاقيًا. جمالياته البصرية طاغية. تساؤلاته، المتعلّقة ببيئة وعقائد ومواقع وأمكنة، مُهمّة. التوليف أساسيّ، كما التصوير والمتابعة والعيش اليومي في دائرة الخطر. هذا جوهر الفيلم الوثائقي، الذي يعكس شيئًا من سلوك تربويّ، يؤدّي إلى تنشئة جيل (وأكثر) من جهاديين أصوليين، يعتبرهم كثيرون إرهابيين.
الموضوع حسّاس، يُصيب عصبًا في نفوس كثيرين، فيُهاجم بعضهم الفيلم متَّهِمًا صانعه بتحييده النظام الأسديّ، كمن يرفع عنه مسؤولية الجرائم المرتكبة في سورية. هذا نقاش مفتوح على احتمالات جمّة، إذْ لن يكون صائبًا تأكيد "تحييدٍ" كهذا، وإنْ يبقى طلال ديركي في حيّز واحد، فالحيّز الواحد هذا هدفه الذي يسعى إلى اكتشافه وكشفه: اكتشاف آليات عيش وتربية ومسالك في بيئة "أصولية ـ جهادية"، وكشفه. لذا، السؤال شرعيٌ: إنْ يكن الهدف اكتشافًا كهذا، أفلا يحقّ للراغب في الاكتشاف أن يذهب بعيدًا في سبر أغوار وأعماق وخفايا، من دون حدود يُقيمها لنفسه؟ أما الكشف، فمُكمِّل للاكتشاف، وهذا مُطالَب أيضًا بالذهاب بعيدّا في التفكيك والتوغّل والتعرية.
التعاون الوثائقي مع أفرادٍ بالغين غير ملتزمٍ حدودًا، طالما أن البالغين موافقون. المواربة والاحتيال والخبث أدوات عملٍ يُريد المسّ بمبطّن أو مخفيّ أو منغلِق، ويريد اكتشافًا وكشفًا في الوقت نفسه. البالغون يعرفون أن سينمائيًا (وإن يتخفّى بصفةِ صحافيّ أو إعلاميّ كحالة طلال ديركي) يأتيهم لهدفٍ، ربما لن يبوح بمضمونه كلّه. الاحتيال مطلوب. السينمائيّ محتاجٌ إلى شخصيات تقول أمام الكاميرا ما تُخبره به بعيدًا عنها. كثيرون يتبدّلون كلّيًا أمام الكاميرا، وكثيرون لن يتصرّفوا بعفوية أمام الكاميرا إنْ يُدركون المضمون كلّه لهدفٍ يجتهد السينمائيّ في تحقيقه. لذا، يميل السينمائيّ إلى حيلة أو مواربة أو خبث، وهذا كلّه مقبول فالسينما أهمّ من أن تسمح بما يحول دون تحقيق اشتغالاتها.
السؤال الأبرز ـ المطروح بشدّة في الآونة الأخيرة، خصوصًا بعد العرضين البيروتيين لـ"عن الآباء والأبناء" في إطار الدورة العاشرة (29 مارس/ آذار ـ 6 إبريل/ نيسان 2019) لـ"أيام بيروت السينمائية" ـ يتعلّق بأسامة، ابن أبو أسامة، الجهاديّ في "جبهة النصرة" (مقاطعة إدلب ـ شمال سورية) والمتيّم بأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، فابنه الثاني يُدعى أيمن. ابنا الجهاديّ قاصران، لذا يُفترض بتصويرهما أنْ يحصل على موافقة "ولي أمرهما". واضحٌ أن الموافقة موجودة، فأبو أسامة مُدركٌ أن هناك كاميرا تعيش معه يوميًا وتلتقط تفاصيل كثيرة، في منزله وبين رفاقه وأصدقائه وعاملين معه، ومع أهل وأقارب، بالإضافة إلى رفقة أبناءٍ، بعضهم يلتحق بتدريبات باكرة للتمكّن من امتلاك أدوات الجهاد. لذا، إلى أي مدى يتحمّل طلال ديركي مسؤولية أخلاقية بتوثيق رحلة أسامة من منزل أبيه الجهاديّ إلى أشبال الجهاديين؟ بعض منتقدي "عن الآباء والأبناء" رافضٌ لإمعان طلال ديركي بفضح هوية أسامة، وتعريض غَدِه إلى خطر، رغم أن هذا بعضهم منطلقٌ في انتقاده من انتماء إلى معارضة واضحة للنظام الأسديّ، وغير موافق البتّة على سلوكٍ جهاديٍّ يُحمّله هذا بعضهم جزءًا من مسؤولية خراب سورية.
فهل يتحمّل طلال ديركي مسؤولية أخلاقية كهذه؟ الإجابة الحاسمة مستحيلة. الصعوبة في تحديد مسائل كهذه تحول دون بلوغ إجابة حاسمة. النقاش مطلوب، بعيدًا عن تخوين واتّهامات، وخارج "عن الآباء والأبناء" أيضًا، فالمقبل من الأيام ربما يُقدِّم مزيدًا من أفلام وثائقية تغوص في عوالم شبيهة. السؤال أخلاقيّ، وطرحه حقّ، ومناقشته مطلوبة. السؤال أخلاقيّ، وهذا لن يحول دون التنبّه إلى جماليات سينمائية مختلفة يصنعها طلال ديركي في فيلمه هذا، وإلى مخاطر محيطة بإنجازه، وإلى أهمية ما يحتويه من تساؤلات ومضامين. السؤال أخلاقي، فالعلاقة السينمائية الوثائقية بشخصيات غير بالغة جديدة في صناعة الصورة العربية، وإنْ تظهر برويّة في أفلام قليلة، يُثير بعضها السؤال نفسه، وإنْ تكن المخاطر مختلفة. فـ"الهجوم" (غير المُبرَّر وغير المنطقي وغير السليم) على "الجمعية" (2018) للّبنانية ريم صالح يُشبه ما يتعرّض له طلال ديركي، مع اختلافٍ كبيرٍ في كيفية اكتشاف واقع وكشفه. فصالح تغوص في عوالم "حيّ روض الفرج" في القاهرة، وتذهب بعيدًا في مرافقة دنيا، غير البالغة، التي تنقل عنها ومعها (وهذا معروف لدى والديّ دنيا) تفاصيل من حياتها، وعلاقتها بالختان. في حين أن ديركي يضع أسامة في واجهة أخطر وأسوأ، إذ إنّ "جبهة النصرة" منبوذة بعنفٍ في محافل كثيرة، لاتهامها بممارسة إرهابٍ يُصيب أفرادًا وبلادًا ومجتمعات.
الأهمّ في المسألة كلّها كامنٌ في ضرورة البدء بنقاشٍ يتناول مسألة حسّاسة: المسؤولية الأخلاقية في التصوير الوثائقي لمن هم دون سنّ البلوغ. أو بالأحرى: كيفية التعامل معهم، سينمائيًا وإنسانيًا وأخلاقيًا. السؤال مطروحٌ، لكن الإجابة الشافية منعدمة حاليًا، رغم أن سجالات ترفض فعلة ديركي في مقابل مدافعين عنه، وعن حقّه السينمائي في الذهاب بعيدًا في بحثه وتنقيبه واكتشافاته وكشفه، من دون حدودٍ.
الموضوع حسّاس، يُصيب عصبًا في نفوس كثيرين، فيُهاجم بعضهم الفيلم متَّهِمًا صانعه بتحييده النظام الأسديّ، كمن يرفع عنه مسؤولية الجرائم المرتكبة في سورية. هذا نقاش مفتوح على احتمالات جمّة، إذْ لن يكون صائبًا تأكيد "تحييدٍ" كهذا، وإنْ يبقى طلال ديركي في حيّز واحد، فالحيّز الواحد هذا هدفه الذي يسعى إلى اكتشافه وكشفه: اكتشاف آليات عيش وتربية ومسالك في بيئة "أصولية ـ جهادية"، وكشفه. لذا، السؤال شرعيٌ: إنْ يكن الهدف اكتشافًا كهذا، أفلا يحقّ للراغب في الاكتشاف أن يذهب بعيدًا في سبر أغوار وأعماق وخفايا، من دون حدود يُقيمها لنفسه؟ أما الكشف، فمُكمِّل للاكتشاف، وهذا مُطالَب أيضًا بالذهاب بعيدّا في التفكيك والتوغّل والتعرية.
التعاون الوثائقي مع أفرادٍ بالغين غير ملتزمٍ حدودًا، طالما أن البالغين موافقون. المواربة والاحتيال والخبث أدوات عملٍ يُريد المسّ بمبطّن أو مخفيّ أو منغلِق، ويريد اكتشافًا وكشفًا في الوقت نفسه. البالغون يعرفون أن سينمائيًا (وإن يتخفّى بصفةِ صحافيّ أو إعلاميّ كحالة طلال ديركي) يأتيهم لهدفٍ، ربما لن يبوح بمضمونه كلّه. الاحتيال مطلوب. السينمائيّ محتاجٌ إلى شخصيات تقول أمام الكاميرا ما تُخبره به بعيدًا عنها. كثيرون يتبدّلون كلّيًا أمام الكاميرا، وكثيرون لن يتصرّفوا بعفوية أمام الكاميرا إنْ يُدركون المضمون كلّه لهدفٍ يجتهد السينمائيّ في تحقيقه. لذا، يميل السينمائيّ إلى حيلة أو مواربة أو خبث، وهذا كلّه مقبول فالسينما أهمّ من أن تسمح بما يحول دون تحقيق اشتغالاتها.
السؤال الأبرز ـ المطروح بشدّة في الآونة الأخيرة، خصوصًا بعد العرضين البيروتيين لـ"عن الآباء والأبناء" في إطار الدورة العاشرة (29 مارس/ آذار ـ 6 إبريل/ نيسان 2019) لـ"أيام بيروت السينمائية" ـ يتعلّق بأسامة، ابن أبو أسامة، الجهاديّ في "جبهة النصرة" (مقاطعة إدلب ـ شمال سورية) والمتيّم بأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، فابنه الثاني يُدعى أيمن. ابنا الجهاديّ قاصران، لذا يُفترض بتصويرهما أنْ يحصل على موافقة "ولي أمرهما". واضحٌ أن الموافقة موجودة، فأبو أسامة مُدركٌ أن هناك كاميرا تعيش معه يوميًا وتلتقط تفاصيل كثيرة، في منزله وبين رفاقه وأصدقائه وعاملين معه، ومع أهل وأقارب، بالإضافة إلى رفقة أبناءٍ، بعضهم يلتحق بتدريبات باكرة للتمكّن من امتلاك أدوات الجهاد. لذا، إلى أي مدى يتحمّل طلال ديركي مسؤولية أخلاقية بتوثيق رحلة أسامة من منزل أبيه الجهاديّ إلى أشبال الجهاديين؟ بعض منتقدي "عن الآباء والأبناء" رافضٌ لإمعان طلال ديركي بفضح هوية أسامة، وتعريض غَدِه إلى خطر، رغم أن هذا بعضهم منطلقٌ في انتقاده من انتماء إلى معارضة واضحة للنظام الأسديّ، وغير موافق البتّة على سلوكٍ جهاديٍّ يُحمّله هذا بعضهم جزءًا من مسؤولية خراب سورية.
فهل يتحمّل طلال ديركي مسؤولية أخلاقية كهذه؟ الإجابة الحاسمة مستحيلة. الصعوبة في تحديد مسائل كهذه تحول دون بلوغ إجابة حاسمة. النقاش مطلوب، بعيدًا عن تخوين واتّهامات، وخارج "عن الآباء والأبناء" أيضًا، فالمقبل من الأيام ربما يُقدِّم مزيدًا من أفلام وثائقية تغوص في عوالم شبيهة. السؤال أخلاقيّ، وطرحه حقّ، ومناقشته مطلوبة. السؤال أخلاقيّ، وهذا لن يحول دون التنبّه إلى جماليات سينمائية مختلفة يصنعها طلال ديركي في فيلمه هذا، وإلى مخاطر محيطة بإنجازه، وإلى أهمية ما يحتويه من تساؤلات ومضامين. السؤال أخلاقي، فالعلاقة السينمائية الوثائقية بشخصيات غير بالغة جديدة في صناعة الصورة العربية، وإنْ تظهر برويّة في أفلام قليلة، يُثير بعضها السؤال نفسه، وإنْ تكن المخاطر مختلفة. فـ"الهجوم" (غير المُبرَّر وغير المنطقي وغير السليم) على "الجمعية" (2018) للّبنانية ريم صالح يُشبه ما يتعرّض له طلال ديركي، مع اختلافٍ كبيرٍ في كيفية اكتشاف واقع وكشفه. فصالح تغوص في عوالم "حيّ روض الفرج" في القاهرة، وتذهب بعيدًا في مرافقة دنيا، غير البالغة، التي تنقل عنها ومعها (وهذا معروف لدى والديّ دنيا) تفاصيل من حياتها، وعلاقتها بالختان. في حين أن ديركي يضع أسامة في واجهة أخطر وأسوأ، إذ إنّ "جبهة النصرة" منبوذة بعنفٍ في محافل كثيرة، لاتهامها بممارسة إرهابٍ يُصيب أفرادًا وبلادًا ومجتمعات.
الأهمّ في المسألة كلّها كامنٌ في ضرورة البدء بنقاشٍ يتناول مسألة حسّاسة: المسؤولية الأخلاقية في التصوير الوثائقي لمن هم دون سنّ البلوغ. أو بالأحرى: كيفية التعامل معهم، سينمائيًا وإنسانيًا وأخلاقيًا. السؤال مطروحٌ، لكن الإجابة الشافية منعدمة حاليًا، رغم أن سجالات ترفض فعلة ديركي في مقابل مدافعين عنه، وعن حقّه السينمائي في الذهاب بعيدًا في بحثه وتنقيبه واكتشافاته وكشفه، من دون حدودٍ.