بالتزار كورماكور يغوص في الحبّ "بلا هدف"

24 اغسطس 2018
"بلا هدف" لبالتزار كورماكور (فيسبوك)
+ الخط -
بعد 3 أعوام على تحقيقه "إيفرست" (2015)، أنجز المخرج الأيسلندي بالتزار كورماكور (1966) "بلا هدف" (Adrift). وإنْ يكن السابق فيلمًا عن الثلج، فإن جديده هذا فيلمٌ عن البحر. 

يبدأ "بلا هدف" من لحظة حرجة ذات خطر كبير: احتمال الموت. "كادر" على يخت يتقاذفه الموج في عاصفة. يُسمَع صوت ارتطام. مع الخطر، ترتفع صرخة، ويتّسع الـ"كادر" ليشمل البحر والأفق.

يُساهم المونتاج في تكثيف البناء الدرامي. يترك المخرج الأمر غامضًا، ويكتب في الـ"جينيريك" أن الفيلم مُقتَبَس من قصّة حقيقية، مأخوذة من كتاب "سماء حمراء في حِداد: قصة حقيقية عن الحب، الخسارة والبقاء على قيد الحياة في البحر" (1998) للثنائي تامي أولدام وسوسِيا ماك غيرهارت. يعود كورماكور إلى البداية لتفسير كيف جرى ذلك، على طريقة "كان يا ما كان". هنا، يلعب المونتاج بالزمن الفيزيائي الممتدّ على 40 يومًا. يُخفي المخرج بعض المعلومات لتشويق المُشاهد. يبدأ الفيلم كإعلان سياحي عن الشواطئ. تنطلق البطلة تامي أولدام (شايلين وودلي، 1991) من الشاطئ الغربي لأميركا، المفتوح على العالم الآسيوي. تطبخ على مركب، وتصل إلى تاهيتي صدفةً. تعمل في تنظيف المراكب. تستمتع بعالم البحر الخفيف والمتحرّر. تعيش اللحظة. الارتجال يقودها. إنها ثورية. تلتقي ريتشارد شارب (سام كلافلن، 1986). رحّالة أبدي على مركب صغير، يجد في تامي توأم روحه. تُكافئه بأن تُحبّه بإخلاص.

في الـ"كادر"، رجل وامرأة وسط البحر طيلة الفيلم. إنهما يكفيان لطرد الملل. عاصفة بحرية. العالم مركب مُهدَّد بالغرق. تايتانيك صغير. شخصان وحيدان في مواجهة خطر الطبيعة، الذي يفرض عليهما أن يتّحدا ليقاوماه.




يجعل عزلُ المكان والبطل في الـ"كادر" الصورةَ مقروءة، فالفيلم ينتمي إلى نوع سينمائي يعزل بطله، كما في "الشيخ والبحر" (1958) لجون ستورجس، المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (1952) لإرنست همنغواي، أو في "كل شيء ضاع" (2013) لجي. سي. شاندور، الذي يتابع الشيخ (روبرت ريدفورد) وحيدًا وسط المحيط. شيخٌ ضائع في عرض البحر يُسبِّب الشفقة، لكن مشاهدة شابة وحيدة في الحيّز المكانيّ نفسه تثير وجعًا وحنينًا.

في هذا النوع الفيلمي، يُعزل الكائن لاختبار طاقته ومشاعره في الماء، عندما يكون الماء ناعمًا وشاعريًا ومنسابًا، أو حين يكون هائجًا وغدّارًا وقاتلاً. تفرض العزلة على الكائن العودة إلى البدائية في مواجهة الطبيعة.

هذا يطرح اختبارات:
اختبار تامي في أن الحبّ أهم من المال، حين يفضّل الرحّالة أن يتبع حبيبته بدلاً من قبول المهمّة المُربحة المعروضة عليه (إيصال يخت عائلة غنية إلى كاليفورنيا)، واختبار الوفاء للحبيب في الظروف كلّها، واختبار التحمّل. الأخطر بينها: اختبار المبادئ أو الجوع.

لجعل الاختبارات مقنعة، يجعل بالتزار كورماكور المُشاهد يعيش القصة من داخلها، بدلاً من أن يكون مُراقبًا خارجيًا. يستعمل كاميرا ذاتية تغرق مع الشخصية، وتتيح له التواجد في قاع المحيط ليعيش أحاسيس الخطر نفسها. للتشديد على هذا الإحساس، يختم كورماكور فيلمه بصُوَر من الصُحف عن القصّة الحقيقية. "إيفرست" أيضًا مقتبس من حدث واقعي، مروي في "مأساة في إيفرست" (1997) لجون كراكاور.

الحرص على اقتباس سيرة ذاتية هو ادّعاء الأمانة لزيادة المصداقية والتأثير. مصدر التأثير نابعٌ من تمكن كاتبي السيناريو ـ آرون وجوردان كاندل وديفيد برانسون سميث ـ من منح الحدث المُقتبس بُعدًا روائيًا، بنقله من كونه حدثًا عرضيًا إلى حدثٍ وجودي ناتج من مزاج البطلة التي تكره برمجة حياتها وتعيش من أجل اللحظة من دون هدف. تلتقط المتع العابرة. ثمن الانقياد للأهواء فادحٌ. بفضل هذه المعالجة الروائية، ينتشل "بلا هدف" مُشاهده من ضجيج اللحظة بضربة معلم، معيدًا إياه إلى واقعه، كي يكتشف مزاجه وأثره على قراراته.

لعرض التحوّل، يُظهر النصف الأول من الفيلم علاقات حرة في شواطئ تشكّل ملاذًا للهاربين من قوانين المجتمع. في النصف الثاني، يرجع الفيلم إلى قانون البرّ، ويستعيد الواقع سلطته على الهاربين منه. آن أوان وقف الطيش والرحلات التي تُقام صدفةً. يبدأ الثنائي تامي وريتشارد تحقيق مشروع زواج، لكن طبعهما الطائش يغلب تطبعهما الطارئ. في النتيجة، تصير الثورية قاتلة سمك. الجوع يحطّم المبادئ كلّها.

لتعميق معالجة اقتباس حدث عابر، يستخدم بالتزار كورماكور صُورًا وجُملاً شاعرية في الحوار. في الصورة، موجٌ ورذاذٌ ومركبٌ يتجه إلى الأفق لحظة الغروب، وجسد تامي المنساب ينبض في الماء. هذا يجعل المُشاهد يعشقها ويخاف عليها من البحر المتقلّب كالحياة.
في الحوارات جملٌ مشبعة بالاستعارات تجمع بين شيفرتين: شيفرة رحلة المركب وشيفرة رحلة الفرد. يعترف البطل بأنه يجوب نصف بحار العالم للعثور على نصفه الثاني. في لحظة الأزمة، ينصح نفسه بعدم التسديد على أهدافٍ بعيدة، لأنه ربما يموت قبل بلوغها. مع اقتراب الخطر، يُنزل الحبيبان الأشرعة لتقليل خطر الريح. يقع الشراع ويلتصق بدفّة المركب، فتتشوّش الوجهة. بالتأكيد، فإنّ الشراع والعاصفة مشبعان بالرموز: العاصفة ابنة الطبيعة والشراع ابن الثقافة.

حين تنجو تامي وحيدة وحزينة، تتلقّى تفاحة حمراء من منقذيها. لعلها تُدرك أنها ناجية في مركب أغنياء يدّخرون لأنهم يحتاطون للأيام. فرص النجاة على يخوت الأغنياء أكبر.
المساهمون