"المصوّر" لريتش باترا: رومانسية وحبّ عند بوابة مومباي

07 فبراير 2020
سانيا مالهوترا: الرغبة في السكينة (سوجيت جايسوال/فرانس برس)
+ الخط -
لحق بها بعد مغادرتها صالة العرض. سألته: "لمَ تركتَ الفيلم؟ هل شاهدتَه قبلاً؟"، أجابها: "كلا. لكنّي أعرف القصّة. ستعارض أسرة الفتاة زواجهما المستحيل، وستبدأ المشاكل".
في مشهد من "المصوّر" (2019)، للهندي ريتش باترا (1979) ـ له 4 أفلام، بينها "نفوسنا في الليل" (2017)، مع روبرت ريدفورد وجاين فوندا (نتفليكس) ـ تحدّث رفيع مع صديقته الجميلة، التي أدركت ما أدركه. لذا، خرجت، ولم ترغب في إكمال المُشاهدة. وجودها معه أثار استغراباً وتعليقات. هو أسود البشرة، وهي بيضاء. لكن الإشارات المتكررة إلى شكل رفيع (الهندي نوّاز الدين صِدّيقي) تضمّنت معاني أخرى، تجاوزت الخارجيّ. إنّها تعبير عن خلفية اجتماعية، وأفكار مسبقة سائدة، أحاطت علاقة الحب بينهما.

ربما لا ينتبه المُشاهد العادي، المأخوذ بسحر نواز الدين صِدّيقي وحضوره الطاغي على الشاشة إلى هذا الفرق الجوهري بينه وبين صديقته ميلوني (سانيا مالهوترا). أو ربما لا يُدرك خلفياته وأبعاده. لعلّ هذا ما دفع السيناريو (ريتش باترا) إلى الإشارة إليه في مواقف عدّة، عبر مزاح أصدقائه الشبان معه (ألم تجد أقلّ جمالاً منها؟)، أو تعليق سائق سيارة أجرة، استقلّها الثنائي، بسؤاله، من دون إحراج، إنْ كان رفيع ممثلاً. برأيه، هذا سبب وحيد، يجعل فتاة مثلها تخرج مع شاب مثله. الشكل ليس هدفاً، بل ما خلفه. لا يُشير المخرج بوضوح إلى أنّ وراء هذا كلّه تفاوتاً طبقياً غير مسموح بتجاوزه. يُمرّره برهافة، وبكلام قليل، أفاد من دون مباشرة بأنّ رفيع فقير وأسمر، وميلوني مرفّهة وفاتحة البشرة، وأنّ لقاءهما شبه مستحيل بحسب العرف. لكنّ كلّ نظرة أو سلوك أو موقف يذهب في هذا الاتجاه.

رفيع مُصوّر يعمل عند بوابة مومباي، حيث يريد سياح وزائرون تخليد لحظة مرورهم بها. يعرض خدماته من دون إلحاح. في هذا، هو مغاير للآخرين، بل مختلف في كل شيء عنهم، ولا يبدو منهم. هنا نقطة ضعف في الإخراج، الذي يُظهر البطل بطلاً، إذ لا يمكن الاقتناع تماماً بأنّه من ضمن هؤلاء المُصوّرين، لا بسلوكه أو كلامه أو قميصه الأبيض النظيف دائماً. هو صامت غالباً، لا يشاركهم الضحك والكلام السوقي والمزاح. متميّز عنهم. هنا، تكمن المشكلة: إنّه شديد التميّز. لكنّ هذا لا يؤثّر على سحر الفيلم.

يتكئ السيناريو على الإخراج في إظهار خلفيات التعامل الطبقي في الهند. يعتمد على ما لا يقال أو يُكتب، بل على ما يُثير الإحساس. حوار متقشف، وشروح قليلة لإدراك أشياء كثيرة. العائلة تقرّر زواج أفرادها. جدّة رفيع ربّته بعد موت والديه. تأتي إلى المدينة للتعرّف إلى خطيبته. تريد الحكم على مدى صلاحيتها. للتخلّص من إلحاحها بزواجه من فتاة في القرية، يخترع خطيبة، فتكون ميلوني، الوديعة الخجولة التي صادفها في ساحة المدينة. تقبل بلعب دورٍ انغمس الاثنان فيه إلى حدّ تصديقه. حقيقة، أحبّها رفيع من النظرة الأولى في اللقاء الأول، لكن من دون آمال.
في لقائهما، يكتشفان جوانب مخفية من شخصيّتيهما. يلقيان نظرة جديدة منعشة على حياتهما، ربما تجلب لهما الحزن، لكنها تحمل متعة الاكتشاف، ونوع العلاقة بينهما. هما سرّ سحر الفيلم، القائم على سيناريو، محتواه بسيط. علاقة لا تروم شيئاً. لا مواجهة ولا كفاح ولا نضال لفرض نفسها. مجرّد علاقة محكوم عليها بالفشل منذ البداية، لكنّها تستمرّ ببساطتها ومحدودية متطلباتها. المتعة في الجوار واللقاء والمشي معاً من دون حوار، والتنزّه وتبادل النظرات وعدم التشارك بالأفكار. علاقة حبّ مطلق ومثالي، يهدف إلى الوجود معاً ككائنين تجمعهما البساطة والخجل والعزلة. الرغبة، غير المتحقّقة طبعاً، جزء أساسي يتم الإيحاء بها. سرد هذا من دون كلام ليس سهلاً. لكن المخرج "الرومانسي" أوصله بسلاسة مدهشة.

الفتاة مرغوبة من آخرين. يحبّها أستاذها في المعهد، حيث تدرس. يتقدّم لها عريس يعيش في الخارج. هي غير متمرّدة، بالأسلوب المعروف عن فتيات متمرّدات. يُظهرها السيناريو نموذجاً لفتاة مطيعة، لا رأي لها، تنتمي إلى الطبقة الوسطى المرتبطة بالعائلة وتقاليدها. لا تقاوم. وبناء على طلب والديها، توافق على لقاء المرشّح، وترافقه. هذا بعد تعرّفها إلى رفيع. للمرة الأولى، يُنطقها السيناريو بما يبدي تحوّلاً في شخصيتها، ينتج عن علاقتها الجديدة، فتبدأ بالتعبير عن أمانيها، بعد أن كانت تكبتها في البداية، خشيةً أو عدم اكتراث. بجملة بسيطة، تُعبّر للعريس المقترح عليها عن أعزّ أمانيها: "العيش في القرية حيث السكينة، من دون أنْ تفعل شيئاً". فقط لتستمتع بالطبيعة. تقول له هذا، وتغادر بهدوء كما أتت.
كما في "المطبقية" (2013)، فيلمه السابق، يميل ريتش باترا إلى الرومانسية. من دون مبالغة عاطفية، يذهب بعيداً في الصمت، عند اللزوم، وفي الثرثرة، بين حين وآخر، عندما تكون ضرورية للتعبير عن شخصية أو بيئة اجتماعية: عندما يجتمع الأصدقاء الذين يسكنون غرفة مشتركة ويتسامرون، أو عندما تأتي الجدّة وتطرح تساؤلاتها الفضولية، أو عندما تحاول التقرّب من ميلوني. الصمت كلّه يُودِعُه لدى الحبيبين. الحبيبان؟ هناك تردّد بإلصاق هذه "التهمة" بهما. هما شيءٌ لا يوصف، تمتزج فيه ألفة وارتياح وإعجاب وحنان ولهفة خفيّة، لا تصاحبها لمسة يد أو كلمة حبّ. هل هو الخوف في مجتمع يعتمد نظام التراتبية الطبقية في حياته اليومية، حتى لو ألغاها القانون؟ رفيع شريف، يريد ردّ دين أبيه، لكنه قروي وأسمر ومعدم، ومن طبقة دنيا. هذا ما لا يمكن غفرانه أو التغاضي عنه في الهند.
وكما في "المطبقية" أيضاً، يعود باترا إلى مومباي العجيبة، إلى ازدحامها ومواصلاتها وعتمتها وضوئها. في هذا التناقض المحبّب بين أماكنها، يختار ركناً كأنّه ليس منها، لهدوئه وشاعريته، وركناً آخر يغلي بكل ما فيه من خلقٍ وعجلات. لا ينسى موسيقاها وسينماها، فتحضر بوليوود مع أفلامٍ أثّرت فيه كمخرج نشأ في الهند، وعاش في الولايات المتحدة الأميركية. مومباي حاضرة بأفلامها التي ميّزت الثمانينيات الفائتة، فيسترجعها في "المطبقية" و"المُصوّر" عبر أغانيها ومقاطع منها، لا سيما تلك التي تتلاقى مع مغزى فيلمه.
دلالات
المساهمون