"الكمّ والكيف" في السينما المغربية: مغالطات نقدية

19 سبتمبر 2018
من "جوق العميان" لمحمد مفتكر (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
بعدما كانت السينما المغربية، في سبعينيات القرن الـ20 وثمانينياته، ترزح تحت معادلة أفلام مغربية قليلة في مقابل قاعات سينمائية كثيرة نسبيًا (بلغ عددها في الثمانينيات مثلاً نحو 250 قاعة)، انعكست المعادلة مع بداية الألفية الجديدة مع ازدياد الإنتاج السينمائي المغربي، الذي بلغ 30 فيلمًا سنويًا، فيما بدأت تتراجع شبكة الصالات، إلى أن صرنا وسط منظومة استغلال شبه مشلولة، قوامها 30 شاشة تقريبًا. 

هذا أفضى إلى ظهور مفهوم "الكمّ والكيف" الدوغمائي، والجملة التي تُعبِّر عنه: "السينما المغربية تجاوزت امتحان الكمّ، لكنّها فشلت في تحدّي الكيف". عبارة تُلقى على عواهنها لتشخيص الوضع السينمائي في المغرب، فتغني قائلها ـ مثل كل مفهوم دوغمائي ـ من متاعب الخوض في التفاصيل ودقائق الأمور، من دون أن ينتبه أن استعمالها يُعرِّضه لمغالطات ومطبّات فادحة.

اعتباطية المعايير
ما مدى النجاح النقدي الذي ينبغي أن يحقّقه فيلمٌ كي يصحّ وضعه في خانة ما يُصنّف عادة في عداد الكيف لا الكمّ؟ هل ينبغي من أجل ذلك أن يشارك الفيلم في مهرجانات فئة "أ"، أم يكفي أن يُتوَّج بجائزة من مهرجان فئة "ب"؟ ماذا عن الأفلام التي تحظى باحتفاءٍ نقدي من دون أن يحالفها النجاح في المهرجانات؟

أسئلة تُبيّن اعتباطية المعايير التي تُصنّف الأفلام وفقًا لها من قبل البعض بطريقة فجّة، وتكشف مدى ضرورة البحث عن معايير ذات مصداقية أكبر وأكثر تشبّعًا بالقيم الـ"سينفيليّة".

أفلامٌ عديدة اعتبرتها، مباشرة بعد مشاهدتي إياها، من جواهر السينما المغربية، لكنّي فوجئت بنقّاد آخرين يمقتونها للغاية. حدث هذا مع "النهاية" (2011) لهشام العسري قبل أن ينال المخرجُ التقديرَ الذي يستحقّه في المغرب بعد أعوام. في المقابل، هناك أفلام أعتبرها ضعيفة، لأنّ طرحها مُسرفٌ في المباشرة، ولا تحمل إبداعًا أو تجديدًا على مستوى رؤية مخرجها. غير أنّ نقّادًا آخرين قالوا فيها غزلاً لا ينتهي، وخصّص بعضهم لها كتبًا. مثلٌ على ذلك: "أندرومان" (2012) لعز العرب العلوي.

الحكم القاطع على انتماء فيلم إلى فئة من دون الأخرى ليس سلوكًا "سينفيليًا"، لأنّ من أهمّ ركائز الـ"سينفيليا" نسبية التقييم وتنوّع الذوق. هذا يُحيل إلى خطأ مفهوم "الكمّ والكيف"، أي الخلط الفادح بين الكيفية والنوعية. فالذين يستخدمون هذا المفهوم بشكل غير دقيق هم أنفسهم الذين يعتبرون أنّ نوعًا سينمائيًا مُعيّنًا، كأفلام "سينما المؤلف" بمعناها الضيّق والمشوّه، هي وحدها التي تُصنَّف في فئة "الكيفية"، ويقصون بالتالي ـ بشكل شبه أوتوماتيكي ـ أنواعًا أخرى.

هكذا يصبح كلّ فيلم يجنح إلى الكوميديا مثلاً "فيلم كمٍّ" بالضرورة، بغضّ النظر عن مدى توفّق المخرج فيه. مثلٌ أول: "جوق العميان" (2015) لمحمد مفتكر، وهو فيلم جيّد، لكنه أثار امتعاض كثيرين عند مشاركته في المسابقة الرسمية للدورة الـ14 (5 ـ 14 ديسمبر/ كانون الأول 2014) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش"، لأنه كسر أفق النقاد بإيقاعٍ وطرحٍ يختلفان جذريًا عن شكل "البراق" (2010)، الفيلم الأول لمفتكر، الذي لاقى ترحيبًا نقديًا كبيرًا. مثلٌ ثانٍ: "سراب" (2009) لطلال السلهامي، الذي اعتبره كثيرون غير جدّي وسطحيا لكونه ينهل من الفانتازيا التي لم تَعتَد "سينما المؤلف" المغربية إنتاجه، رغم أن مخرجه توفَّق فيه بشكل لا بأس به على مستويي الإخراج وتماسك البنية السردية.



هذا الخلط، عند امتزاجه بعقلية التّعالي النقدي على الأفلام، أدّى إلى ما يُعتَبر "أهمّ مرضٍ" تعانيه الممارسة النقدية في المغرب: جنوح نقاد كثيرين إلى كتابة تنظيرية (والتنظير السينمائي وفق قواعده بريء منها) يتناولون فيها كلّ شيء، ويتطرّقون إلى الأفلام من خارجها بشكلٍ سطحي لدعم وجهة نظرهم، بدل الانكباب على كلّ فيلم على حدة بما يكفي من التمعّن والتعمّق المطلوبَين للمقالة النقدية، حتى أصبح المتن السينمائي المغربي يعاني فقرًا في التحليل، وأضحت أفلامٌ مغربية مهمّة تواجه صمتًا نقديًا رهيبًا.

نماذج دولية
تنتج السينما الهندية نحو 2000 فيلم سنويًا، وتبيع غالبيتها الساحقة أكثر من مليارين و200 مليون تذكرة في بلدان متفرّقة في العالم، ما يجعلها إحدى أنجح الصناعات السينمائية وأكثرها انتشارًا. يعلم الجميع أن حضورها النقدي وحصادها في المهرجانات الكبرى ضعيفان، بل كارثيّان مقارنة بحجم الإنتاج. فهل يصحّ القول إنّ السينما الهندية ناجحة على مستوى الكمّ ومُخفِقة على مستوى الكيف، رغم انتشارها الواسع ونجاحها الصناعي الساطع؟

من جهة أخرى، لا تتعدّى فيلموغرافيا سينما تشاد بضعة أفلام، لكنّها استطاعت الحصول على جوائز مهمّة من أكبر المهرجانات، كجائزتي لجنة التحكيم الخاصّة عن فيلمي محمد صالح هارون "موسم جاف" (2006) و"رجل يصرخ" (2010): الأول في الدورة الـ63 (30 أغسطس/ آب ـ 9 سبتمبر/ أيلول 2006) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، والثاني في الدورة الـ63 (12 ـ 23 مايو/ أيار 2010) لمهرجان "كانّ" السينمائي. هذا رغم أنّه لا توجد صالات سينمائية في البلد، ولا تظهر بوادر صناعة سينمائية. فهل يُعقل القول إنّ السينما التشادية متوفِّقةٌ في رهان الكيف، رغم عدم نجاحها في امتحان الكمّ؟

تقييم تجربة سينمائية في بلدٍ معيّن يقتضي الاحتكام إلى اعتباراتٍ عديدة، أبرزها إخضاع كلّ أبعاد الاستراتيجية السينمائية المتّبعة إلى الدراسة والتحليل: إنتاجًا وتوزيعًا وبنى تحتية وتكوينًا. وبالتالي، ينبغي أخذ السيرورة التاريخية التي تجتازها سينما البلد بعين الاعتبار، فلا يصحّ أن نتوقّع من دولة لا تزال في طور إنضاج تجربتها السينمائية ما ننتظره من بلدٍ ذي تقاليد سينمائية عريقة وصولات وجولات في أعتى المهرجانات.

ذلك أنّ كلّ سياق تاريخي يرتبط ببنية إكراهات معينة ينبغي استحضارها في تحليل كلّ حالة على حدة، بعيدًا عن قوالب التصنيف الجاهزة، ومزالق الأحكام النمطية.
دلالات
المساهمون