"ذا لونغ مارش" لـ الثلاثي جبران: خُطى صغيرة لمسير طويل

30 يناير 2019
يمزج الثلاثي في عملهم عدة ألوان موسيقية (لويز فيوجير)
+ الخط -
يبدو سمير، كبير الإخوة جبران والمتحدث اللبق والكاريزماتي، في كلامه لإذاعة مونت كارلو عن الموسيقى؛ كونها وسيلةً غايتها المتعة، منسجماً مع توجّه الإصدار الجديد، المعنون بالإنكليزية The long march (المسير الطويل). الألبوم كشكولٌ من أجواء وأمزجة، يُعرّج الثلاثي في كلّ مقطوعة منه، بمسير قصير، مُقتضب ومُقتدِر، على لون لكل أذن، من غير بنيان يُشيّدونه أو غور يسبرونه. وليس هذا غرض المشروع أو مضمونه، ولا هو أمرٌ يدّعونه؛ فالموسيقى لطيفة، خفيفة، معلّبة بإتقان، سواءً في الأداء والعزف، أو في الإنتاج والمزج.

ثلاثي جبران، الذين يطلقون عملهم الجديد في الثالث من الشهر المقبل في لندن، أخوّة وشراكة فنية، تأسّست في مطبخ الأسرة في الناصرة، حيث صنع الأب الأعواد، وصُنعت معها وبها مواهب الأولاد. في ذلك التكوين، تكمن جماهيرية الأخوة، بوصفهم أسرة فلسطينية وبيتاً، وليس مجرّد آلة موسيقية وفرد. لتلك السيرة الأسرية رمزية وطنية خاصة، تحمل معها دلالات البقاء والتجذّر في الأرض أينما تسافر، حولها، ومنها وإليها. تضاف إليها دلالة العود، كآلة ذات أصول عربية خالصة، من بين مختلف الآلات الشرقية؛ فيبدو الثلاثي على المسرح، للعين كما للأذن، مُكعَّبَ الهوية.

لربما قرأ الراحل محمود درويش تلك الرمزية، فدعا الثلاثي إلى منصّته الشعرية، تقليداً بدأه مع مارسيل خليفة، ثم صار تقليعةً اقتدى بها شعراء آخرون بارزون، كأدونيس، حيث أُضيفت الموسيقى، العود إجمالاً، كديكور صوتي على الأمسية الشعرية، ولم تدخل كمكوّن في صميم التجربة الأدائّية التي تجمع كلاً من الشاعر والعازف في توحّد كلّ من بنية الموسيقى والقصيدة.

 اليوم، وعلى منصّة اليوتيوب، صارت العامة تعيد استنساخ التجربة، من خلال رفع مقاطع فيديو تبُثّ صوت الشاعر ممزوجاً بالمؤثرات اللحنية. على نحو شبيه، تُسمع أولى مقطوعات الألبوم الجديد The time must go by تُغلّف صوت درويش وهو يُلقي مقطعاً قصيراً من قصيدته "خطبة الهندي الأحمر".

إلا أن عين الثلاثي، هذه المرة، على السوق العالمية. فالعنوان، وأسماء المقطوعات، عبارات من ذات القصيدة، نُقِلت إلى الإنكليزية، في غيابٍ بنيوي للصلة بين العنوان والمكنون، اللهم سوى بغرض الربط التشكيلي بين أجزاء الألبوم.

تبدو الأسماء كما لو أنها تلعب دوراً مزدوجاً، إذ لها من جهة، معانٍ أرادها محمود درويش رموزاً للنضال الفلسطيني، كالأرض والشجرة، يُخاطب الثلاثي بها عربياً جُمهوره التقليدي، فيما يجذب تَقديمها بلغة "كونية" من جهة أخرى، عالمياً، جمهور اليسار الإيكولوجي الجديد، وريث اليسار الإيديولوجي القديم، أتباعه من الشباب التقدمي المؤمن بقضايا البيئة واستدامة الحياة، والذي لا يرى في الاستيطان الإسرائيلي، مثلاً، إلا محض استطالة كولونيالية.

تغلب في الألبوم الكثرة على الوحدة، ما يمثّل استقطاباً قد يكون لجمهور أوسع وأعرض، في إطار الجاز الشرقي Oriental jazz؛ علامة تجارية صكّها زياد الرحباني ذات يوم ثم ندِم. خليطٌ من الألوان التراثية التقليدية التي تميّز خلفية عازفي العود في العالم العربي، من سماعي ولونغا وغيرها، كما هي الحال في مقطوعتي clay وOur final songs تدخُل عليها من قطبي السرعة والبطء، أساليب الـ Free jazz بثبات على نغمة واحدة وعزوف عن التنقّل المقامي، فيرتاح العازف في الارتجال كما في The age of industry وClay؛ حيث يُعزف على البيانو بأسلوب حر، أو يُقسِّم العود على الطريقة الحيدرية والبشيرية (نسبة إلى كل من محي الدين حيدر وجميل ومنير بشير) مُستنداً إلى نبض الباص المستقر والمنتظم.

على ذات المائدة الموسيقية، لون الجاز الأندلسي أو الـ Flamenco jazz علامة أخرى تخصّ هذه المرّة، أسطورة غيتار الفلامينكو الراحل Paco de Lucia، وتميّز المقطوعة التي تحمل عنوان الألبوم The long march، وفي استعارة هذا اللون تقليد تأسس منذ انطلاقة مسيرة العود المنفرد على يد الأخوين بشير، يعود بآلة الغيتار تاريخياً، الأندلسي خصوصاً، إلى الأصل العربي؛ العود. إما بجمع الآلتين معاً في مناظرات ارتجالية، أو الاستحواذ ثقافياً على موسيقى الفلامنكو Cultural appropriation وتقديمها على العود من باب منّة السلف على الخلف.



كما يدخُل، من باب المزج Mix لون الغناء الأذربيجاني، ومن نجومه المُعاصرين عليم قسيم Alim Qasim، واللون خليط سحري من تراث زرادشتي فارسي، تركي وسط آسيوي وجبلي قوقازي، تُسمع من الخلف آلات الإيقاع الفارسية، والنفخية كالدودُك المقومن في أرمينيا، حيث راجت تلك الألوان برواج المساحات الصوفية الشرقية و الهندو-أوروبية، تسبح في حوض المؤثرات الإلكترونية، تحركها أمواج ريَش العود، مُحدثة جملاً سينمائية واسعة وممتدة، من دون قالب متماسك أو خطٍّ عام مُتسق. يبقى الإطار الجامع هو كثرة الألحان ووفرة العناصر، تحت مظلة الجاز الحر الذي يُغلُف المُنتج على تنوّع مكونّاته ومركّباته.

في Carry the earth يُسمع صوت روجر ووترز Roger Waters مُغنّي البينك فلويد Pink Floyd يُنشد أبياتاً من "خطبة الهندي الأحمر" منقولة إلى الإنكليزية. ووترز، يساري الهوى، مؤيد حقوق الفلسطينيين، صديق الثلاثي وأحد مُحبّيه وداعميه، اشترك معه من قبل في إصدار قطعة منفردة غنّى فيها أيضاً ترجمةً لدرويش. لا يحضر أثر البينك فلويد بصوته فقط، فصداهم يُسمع في زوايا مُتفرّقة من المقطوعة، حيثما توظّف الموسيقى الإلكترونية Synthesizer وحيث التصميم الصوتي المساحي، الذي يُضيف بعدِّة المؤثرات الصوتية بعداً ثالثاً، له أثر كوزموسي Cosmologic شكّل في ما مضى بصمة الفريق الثورية.

لم ينج ألبوم The long march من "التتريك"؛ أي استيراد الأسلوب التركي في التطريب. مع انكفاء مصر كقطب ثقافي عربي، وتطبيع العلاقات السورية التركية في عهد حزب العدالة والتنمية، بعد تسوية ملف لواء الإسكندرون وحزب العمال الكردستاني، ثم انفتاح أنقرة الاقتصادي والثقافي على السوق العربية من دمشق إلى الدوحة، هيمنت الموسيقى التركية في العقدين الماضيين على المجال السمعي العربي.

تساير Our final songs تلك الموجة السائدة، في نسيج الوتريات المصاحب، دوزان القانون على البُعيدات، ضروب الإيقاع وآلاته، وفي تقنيّات العزف من حيث الزخرفة Ornaments والاهتزاز Vibrato العريض، حتى تكاد تتناهى بعض المقاطع موسيقى تركية خالصة، أشبه بشارات المسلسلات المدبلجة إلي الشامية، أو أغاني ما يُعرف في تركيا بالطرب الجديد yeni Şarkılar.

العود علامةُ الأخوة جبران، بيد أن مزج ثلاثة منها معاً، سواءً في بيت واحد، استوديو واحد أو على خشبة مسرح واحدة، يفرض تحديّاً فنيّاً وتجارياً يظل قائماً، ما زال الثلاثي يتغلب عليه بمهارة الأداء أولاً، وبحُسن الإنتاج والتسويق ثانياً. صوتيّاً، يضيع النسيج الآلي للأعواد الثلاثة مرّات، خصوصاً حين تعزف كلها ضمن المجال الصوتي ذاته. عند ذلك، لا يعدو مجموعها سوى تجميع للزخرفة الآلية.

في مرّات أخرى، كما في مقطوعة The tree we wear، تتمايز الأصوات وتتبدّى الألوان، حين تفترق الأعواد عن بعضها علواً وانخفاضاً. على المسرح وفي الأستوديو، يُسهم تكبير الصوت وتصغيره في تشكيل النسيج صناعياً ويُعين الآلة على الاضطلاع بأدوار متضادة بين أداء عودٍ للحن تارةً، وتارة، عزفُ آخر للمرافقة.

المساهمون