المهرجانات السينمائية في العراق: فوضى ولامبالاة

20 يوليو 2018
جمال أمين: ترويج لبضاعة كاسدة (العربي الجديد)
+ الخط -
أين نحن من ثقافة المهرجانات؟ مهرجانات سينمائية محلية عديدة تقام سنويًا في العراق، لكن عددها لا يتناسب مع حجم المنتج السينمائي العراقي، الذي لا يزال يعاني الإهمال. مهرجانات لا يُراعَى في تنظيمها الحدّ الأدنى من الضوابط المتحكّمة بالمهرجانات الدولية، ويتعامل معها صنّاعها باستخفاف ولا مبالاة. فالمسألة، بالنسبة إليهم، ليست أكثر من تمويل مادي يغطي التكاليف المطلوبة، فتُقام دورة أولى قبل نسيان المهرجان غالبًا، أو ينضب معين التمويل، فيكون مصير الدورات اللاحقة الغياب. 


غالبية صنّاع المهرجانات السينمائية لا يعون أهميتها وجدواها، ولا يضعون خططًا علمية وعملية لاستمرارها. فاستحداث مهرجان هو ولادة فكرة جديدة، من شأنها إغناء الحراك السينمائي، خاصة أنّ السينما العراقية تعاني عدم اهتمام المؤسّسات الثقافية، وتهميشًا من قِبلها.
فالمهرجانات، التي أصبحت تُقام في كلّ محافظة في العراق، لم تضف إلى المشهد السينمائي ما يمكن أن تفعله وتنهض به بسبب ضعف المشاركة، وقلّة أهمية أسماء الحاضرين أو المُساهمين في فعالياتها. سبب ذلك عائدٌ إلى عدم توفّر تقاليد حقيقية لتنظيم المهرجانات، وعدم امتلاك الخبرة اللازمة لذلك.

في استطلاع أجرته "العربي الجديد"، أجمع سينمائيون عراقيون على أهمية المهرجانات. فمدير التصوير زياد تركي يقول إنها "توفّر فرصة جيدة لعرض تجارب الأفلام، ما يخلق أجواء معرفية وروحًا تنافسية"، بينما يرى الناقد قيس قاسم أنها "تخلق جوًا من الحيوية على المشهد الثقافي"، مُشيرًا إلى أن المهرجانات في العراق "سيكون لها، من دون شكّ، جدوى كبيرة". بينما يرى الممثل والمخرج جمال أمين أن "المهرجانات مهمّة لأي فنّ، ولكلّ مرافق الحياة". أما الناقد علي حمود الحسن، فيعتبر أنها "تنشر ثقافة الفن السابع"، ويصفها المخرج علي ريسان بكونها "ظاهرة حضارية وعلمية في تطوير الفن وصناعته".



لكن رغم إجماع معنيين عديدين بالشأن السينمائي العراقي على أهمية المهرجانات، على مستوى "خلق وعي وذائقة سينمائيِّيَن"، إلاّ أن هؤلاء (وغيرهم) يرون في كثرتها، مع انعدام التخطيط العلمي لها، "عائقًا في الحصول على نتائج مرجوّة". يقول قاسم: "أظنّ أن المسألة تحتاج الى مساحة نقاش أوسع من إيجاز الفكرة بعدد محدود من الكلمات، لخصوصية المهرجانات السينمائية وصعوبة تحقيق تميّز فيها من دون اكتمال شروط إقامتها، بتوفّر عوامل كثيرة، منها وجود مناخ ليبرالي، يسمح بالتعبير عن الأفكار والمواقف بحرية، تبعد بدورها الاشتراطات السياسية، وكلّ أنواع المحرّمات. كما تحتاج إلى توفر بُنية تحتية، تسمح بتحويل الأفكار والمقاربات المهنية إلى فعل على الأرض، من دونها لا يمكن إقامة مهرجان سينمائي حقيقي، بمعناه المتعارف عليه دوليًا".

في المقابل، يُحدِّد الحسن عوائق مختلفة أمام المهرجانات: "حال بلدنا هو التالي: لا صالات سينمائية ولا قاعات صالحة للمُشاهدة ولا صناعة سينمائية، ما يجعل المهرجانات، عدا قلّة، أقرب إلى مراكز علاقات عامة. ثم إنّ الوجوه مُكرَّرة والمجاملات سائدة والأفلام متواضعة والتنظيم بلا معايير مُعتَبَرة". يُضيف الحسن أن أسباب هذا كلّه "كامنةٌ في شحّ التمويل، وتجاهل المؤسّسات الرسمية للفنون بشكل عام، وتوجّس رأس المال الوطني من المساهمة في التنمية الثقافية".

من جهته، يعتبر أمين أن المهرجانات حاليًا "ليست أكثر من ترويج لبضاعة كاسدة". يقول إن مهرجانات سينمائية عديدة تُقام في المحافظات العراقية كلّها تقريبًا، ما عدا محافظة "الساخنة"، وإن غالبيتها تُقام من قِبَل مجالس المحافظات أو الأحزاب أو رجال الأعمال، وإن بعضها مرتبط بالأكاديميات: "هناك مهرجانات تدعمها "العتبات المقدّسة" في العراق"، لكن المهرجانات كلّها "ليست أكثر من لقاء يجمع بين العاملين في الوسط الفني العراقي، ولا ميزانيات لها ولا تخطيط ولا إدارة". يجزم أمين أن مدراء غالبيتها يتكلّمون اللغة العربية فقط، وأنها تُقام في قاعات غير مخصّصة بالعروض السينمائية، وفي فنادق "درجة خامسة"، وتستعين بوسائل نقل غير حديثة.



في المقابل، لا يميل زياد تركي إلى تسميتها "مهرجانات"، فهي بالنسبة إليه "أقرب إلى جلسات أو ملتقيات منظّمة، تعرض أفلامًا وتناقشها". يُضيف أن العروض مقتصرة على جمهور محدود، "لكنها ستكرس في النهاية أصول ثقافة سينمائية في البلد"، ويرى أن المهرجانات "لا تملك إمكانات لتوفير الدعم لصناع الأفلام الواعدين، ولا هي قادرة على المتابعة السينمائية طوال العام، كما كانت تفعل مهرجانات خليجية، كمقياس للمهرجانات السينمائية في المنطقة". وهو لا يعتقد أن دورها "يرتقي إلى خلق نهضة سينمائية"، وأنّ "تأثيرها محدود في مجتمع محدود، لكنه ضروري إلى حد ما.

فتأثيرها لن يتفوّق على ما تقدّمه الجامعات المتخصّصة بتدريس السينما من الناحية الأكاديمية، وبالتالي، لا هذه المهرجانات ولا الجامعات ولا أي من مؤسّسات الدولة قادرة حقًا على النهوض بقطاع السينما كما ينبغي".

هذا ما يوافق عليه علي ريسان، مع استثنائه بعض المهرجانات: "نعلم أنّ معظم المهرجانات السينمائية في البلد يُشرف عليها دخلاء غير متخصّصين بعلم صناعة السينما، وغير مطّلعين على ديناميكية تطوّر السينما في العالم، أو غير مواكبين لها. أستثني بعضها، المدعوم غالبًا من خارج العراق، لأن القيّمين عليه متخصّصون، بالإضافة إلى نبلهم في تقديم أفلام وترشيحها، وهي أفلام تعتني بفنّ صناعة السينما، وتركّز على ترشيح الأفضل المصنوع بحِرَفية، والحامل قيمة بصرية وجمالية، إلى جودة الصناعة". يُضيف ريسان: "أما مهرجانات وزارة الثقافة فهي لذرّ الرماد في العيون، تُقام غالبًا من أجل أجندة سياسية لهذا الحزب أو ذاك، وهي تُفتتح بعزف السلام الجمهوري، وبحضور ساسة يعتبر معظمهم أن الفنون بتلاوينها كلّها مضيعة للوقت، إنْ لم يكن يكفِّرها".

من ناحية أخرى، هناك أمور كثيرة تحتاجها المهرجانات، من دونها تكون مجرّد ملتقيات أو نوادي سينمائية، كما يرى جمال أمين: "لا توجد لدى غالبية المهرجانات مواقع إلكترونية، وإنْ توفّرت فهي بائسة"، مُشيرًا إلى أن "التحضيرات تبدأ قبل شهر واحد غالبًا، وهذا غير كافٍ"؛ أما المدعوون في العراق فلا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد الواحدة، وهم "يذهبون فقط إلى هذه المهرجانات". وأما الجوائز الموزّعة "فهزيلة، إذْ لا يتجاوز البدل المالي لأغلى جائزة 10 آلاف دينار عراقي (نحو 8 دولارات أميركية فقط) ومجموع الأفلام المشاركة، أعني العراقية منها، هي نفسها التي تنال الجوائز نفسها". وينتقل كلام أمين إلى مدراء المهرجانات، فيقول إن "معظمهم لا يعرف ماهية السينما"، وإنهم "يتمسّكون بكراسيهم بشكل دكتاتوري". يُضيف: "بعد هذه النقاط كلّها، نحن أمام فوضى لا أمام مهرجانات. في الواقع، هذه نشاطات لا تتجاوز نوادي السينما. مع هذا، فهي تُسمّى مهرجانات".


أما البديل عن وضعٍ كهذا، فيُحدِّده زياد تركي قائلاً إن عوامل النهوض بالمهرجانات، والواقع السينمائي عامة، "تكمن في توفير قاعدة اقتصادية وأمنية تشجّع على وجود شركات تستثمر بالسينما عبر ثنائية الإنتاج والتسويق، إنْ تكن الشركات محلية أو الاستثمارات أجنبية". يُضيف تركي أن الشركات وحدها "ستجعل للسينما أصولاً وقيمًا لم يعرفها البلد سابقًا، نظرًا إلى تفرّد الدولة ـ فترة طويلة ـ بعملية الإنتاج السينمائي، وحصرها في ماكينتها الدعائية، وتجريد الموظفين القائمين عليها من أي مخيلة للتطوير والإبداع".

وفي السياق نفسه، يُطالب قيس قاسم بـ"توفير بُنى تحتية تسمح بتحويل الأفكار والمقاربات المهنية إلى فعل ميداني عملي، من دونها لا يمكن إقامة مهرجان سينمائي حقيقي، بمعناه المتعارف عليه دوليًا". لكنه يرى أن "ما يجري فعليًا متمثّل بإقامة مهرجانات محلية، محدوديتها لا تلغي مساهماتها المهمة في نشر ثقافة المشاهدة السينمائية، بعد غياب طويل"، متوقّفًا عند "أجيالٍ من العراقيين يعرفون السينما من خلال التلفزيون". يُضيف قاسم: "سؤال "الكثرة" نسبي، وهو يعتمد على مساحة انتشار الثقافة السينمائية في كلّ بلد، وعلى حجم إنتاجه من الأفلام سنويًا. الاستثناء البارز هنا منعكس في دول الخليج، التي أثار نجاح بعض مهرجاناتها سؤالاً إشكاليًا حول العلاقة بين المُنتج السينمائي وإقامة المهرجان في مكان لا مساهمة كبيرة له في تلك الصناعة؛ بينما تلعب عوامل أخرى ـ ليست محلية بالضرورة ـ في كثرة عددها. المغرب مثل جيد، إذ يُنظَّم فيه، كل عام، أكثر من 50 مهرجانا سينمائيا، جزء من ميزانيات معظمها مدعومٌ من جهات غربية. لكن، هل أثّرت (هذه الكثرة) في نهوض الفن السينمائي؟ الجواب من دون شكّ: نعم، أثّرت. في الحالة العراقية، أثّرت الكثرة أيضًا". يُضيف قاسم أنْ لا ضير من التوسع والإكثار، "شرط ألاّ يكون هذا شكليًا، أو لأغراض خارجة عن هموم الفن السابع وهواجسه، وهو فن شديد الخصوصية، وقابلٌ للأسف ـ بسبب طبيعته التجارية/ الإبداعية ـ لاستغلال العنصر الأول على حساب الثاني".

الناقد علي الحسن يرى في التمويل عاملاً حاسمًا في تحسين نوعية هذه المهرجانات، ويُطالب بالابتعاد عن التمويل الحكومي، وبالبحث عن تمويل القطاع الخاص، "الذي، وإن يفرض شروطًا تعسفية تُطيح، أحيانًا بمهنية المهرجان، إلاّ أنه ضروري لعملية التراكم، التي تؤدّي حتمًا إلى ترويض الرأسمال الوطني، كي يعي أن الاستثمار الثقافي لا يقلّ أهمية عن الاستثمارين التجاري والصناعي".
المساهمون