سيراكوزيا... مدينة أرخميدس وابن حمديس الصقلي

15 مارس 2018
تشتهر بمعالمها العربية والأندلسية (ميل لوغهارت/Getty)
+ الخط -
سقط اسم هذه المدينة تماماً من ذاكرتنا العربية، لا يعرفها أغلبنا مع أن شواهد كثيرة فيها تدل علينا. سيراكوزيا الإيطالية، أو كما كان يسميها العرب سرقسطة، استعادت منذ سنوات بعض ملامحها الأفريقية مع تدفق المهاجرين إليها، ففي كثير من سواحلها ترسو مراكب "الحرّاقين" أي المهاجرين السريين وكأنهم يطالبون بإرث قديم لا يعرفون عنه الكثير، أو ربما يجهلونه تماما، وإليها ترسل البحرية الإيطالية من تلقفتهم من أطفال ومراهقي أفريقيا، حيث تمركزت بها ملاجئ كثيرة تؤوي المهاجرين القصّر وترعاهم إلى حين بلوغهم سن النضج.

لكن المدينة ليست هذا فقط، فهي قصة تاريخية طويلة من الحروب والثقافة والعلم، وكان للعرب فيها إسهام مهم، فهي أولا مدينة أرخميدس وثانيا مدينة ابن حمديس الصقلي، وهي أيضا جزء لا يتجزأ من قصة البطولات العربية الغابرة، و يقال إن أفلاطون أقام بها وزارها، وهي أخيراً قطعة جمال ملقاة على البحر بها معمار مذهل بقي يشهد على التآلف والتناحر الإسلامي المسيحي التاريخي المعروف.

في قلب المدينة، قرب الجسر الذي يربط ضفتيها، وتحت ساقي تمثاله العالي، كتبت صرخة أرخميدس باليونانية "يوريكا…يوريكا" أي وجدتها وجدتها، عندما اكتشف واحدة من أهم القواعد العلمية المتعلقة بقوانين الإزاحة والطفو. ولد أرخميدس في سنة 287 قبل الميلاد، ويقال إنه كان ضالعًا في المنشآت العسكرية، وقاتل القوات الرومانية بمنجنيقات هائلة، ويذكر العلماء اليوم أنه كان أول من فتح الطريق لرياضيات التفاضل والتكامل، وهو الذي أوصل الرياضيات إلى ما بعد الفاصلة في حساب مساحة الدائرة، ما عرف بالـ (باي والذي يساوي 3.14). وهو الذي اكتشف قانون الرافعات.



عاش أرخميدس في القرن الثالث قبل الميلاد، في قلب المعارك المعروفة بين روما وقرطاج، بسبب نيات التوسع لحكام سيراكوزيا ما حتّم مواجهة القرطاجيين الذين كانوا يحكمون الجزء الغربي من جزيرة صقلية، وتمكن جيلو المتحالف مع ثيرون حاكم أغريجنتو (مدينة تؤوي اليوم عددا كبيرا من المهاجرين) من تحقيق انتصار حاسم على القوات القرطاجية وقائدها أميلكار في معركة هيميرا الشهيرة، وقد أنشأ معبد في المدينة باسم أثينا (في مكان الكاتدرائية اليوم) تخليدا لهذا الحدث.

ويمكن للزائر اليوم أن يدخل الكنيسة التي تتوسط قلب المدينة ويلاحظ تطور العمران فيها وتنقل معالمها ما بين الخصوصيات الإسلامية والمسيحية. وتذكر المواقع عن كتب التاريخ حلقات طويلة جدا من هذه الحروب التي لم تتوقف، حيث نجح قادة قرطاج في محاصرتها في القرن الرابع قبل الميلاد، ولكنهم هزموا بسبب الوباء.

لكن العرب نجحوا في محاصرتها وفتحوها في 14 رمضان سنة 264 هـ 21 مارس/ آذار سنة 878 م، على يد الوالي جعفر بن محمد، وكانت فتوحات الجزر البيزنطية شرقي البحر المتوسط امتدادًا للفتوحات البحرية الأخرى، ويقال إن الجيوش الإسلامية اضطرت لمحاصرة المدينة مدة تسعة أشهر برًا وبحرًا لمنع وصول الإمدادات البيزنطية إليها، وبسبب امتناعها وصلابتها في دحر كل من ينوي إسقاطها والسيطرة عليها.



عاش فيها شعراء عرب عديدون من أمثال الشاعر ابن حمديس أهم الشعراء الصقليين في القرن الثاني عشر، ويذكر المؤرخون أنه قال فيها:

ولله أرضٌ إن عَدِمتم هواءها/ فأهواؤكم في الأرض منثورةُ النظم
وعزّكم يفضي إلى الذل والنوى/ من البَيْن ترمي الشمل منكم بما ترمي
فإنَّ بلاد الناس ليست بلادكم ولا جارها والخِلْم كالجار والخِلم

وولد ابن حمديس في سرقسطة عام 447 هجرية الموافقة لعام 1053 ميلادية. ولما استولى النورمانديون سنة 471 هجرية على معظم جزيرة صقلية، هاجر متجهاً إلى تونس، ومنها إلى الأندلس. فوصل إلى إشبيلية عاصمة المعتمد بن عباد وأقام فيها، ويتذكر موطنه الأصلي فيقول:

ذكرت صقليةً والأسى/ يجدد للنفس تذكارها
فإن كنت أخرجت من جنّةٍ/ فإني أحدِّثُ أخبارها
ولولا ملوحة ماء البكاء/ حسبت دموعي أنهارها

ويحق لابن حمديس أن يرثيها بهذا الشكل، فهي مدينة خلابة هادئة تحتضن زائريها بهدوء وترحاب لافتين، في أحد أزقتها التي لا تختلف عن أي زقاق عربي، مبنى متخفٍّ قال صديقي إنه مبنى "الكاريتاس" أي الرحمة، يتطوع فيه أهالي المدينة يوميا لتقديم العشاء للمهاجرين والمحتاجين الفقراء، وإذا تجولت في فروعها وجدت الساحات العربية كما لو أنك في أي مدينة عربية ساحلية، مدينة تحتاج لأن تزورها ربيعا أو صيفا، فقد تنزع عنها كآبة قصص المهاجرين وقتها.


المساهمون