البتراء ليلاً... المدينة على بعد شمعة

02 ديسمبر 2015
يجلس المشاركون أمام الخزنة في ختام التجربة (العربي الجديد)
+ الخط -

ما أن يهبط الظلام متسللاً بين الجبال والتجاويف الصخرية التي تطوّق مدينة البتراء الأردنية وتحصّنها اليوم من أعين العابرين بعد أن حصنتها في الزمن الماضي من جحافل الغزاة، مسدلاً عليها عتمة تجعلك عاجزاً من رؤية أصابع يديك، حتى عندما ترفعها مقابل وجهك، حينها تصاب بالذعر وتعتقد للوهلة الأولى أن لصاً سرق المدينة في غفلة من سكانها، لتدرك لاحقاً أن الليل لص ظريف يعيدها عند الصباح.
ذاك ليل البتراء، المدينة التي حجزت لها في العام 2007 مقعداً على قائمة عجائب الدنيا السبع الجديدة، والمدرجة على لائحة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) منذ العام 1985، هو ليل موحش، يمتلك القدرة على طمس الجمال الساحر للمدينة المنحوتة في الصخور بهندسة نادرة، والذي يضفي لونها الوردي سحراً إضافياً عليها، وهو ليل يحول بينك وبين التقدم صوب المدينة، ويجبرك أن كنت داخلها على حث الخطي مغادراً.
وليل المدينة، يدفعك للتفكير كيف كانت تبدد عتمتها في الزمن الماضي، وكم عدد فوانيس الزيت والمشاعل التي كانت تتطلّبها إضاءة خطى السكان الزوار التي لا تنقطع عن عاصمة الأنباط ومركز تجارتهم، والتي تشير الدلائل التاريخية إلى أنهم نحتوها في العام 312 قبل الميلاد. والثابت أن فوانيس ومشاعل لا حصر لها كانت تقوم بالمهمة الشاقة.
ذلك الليل المنفّر، تحوّل إلى طقس جاذب، منذ العام 1998، حين أطلقت وزارة السياحة الأردنية برنامج البتراء ليلاً "Petra By Night"، الذي يهدف إلى جذب المزيد من السياح إلى المدينة، وإطالة مدة إقالة السياح المتواجدين فيها.
في أيام الاثنين والأربعاء والخميس من كل أسبوع، تغريك الشموع المنثورة على طول الطريق مروراً بالـ"سيق" المتلوي بطول 1200 متر وبعرض يراوح بين 3-12 متراً، وصولاً إلى الخزنة ـ أشهر معالم المدينة - بالاندفاع ليلاً صوب المدينة، نظير 17 ديناراً أردنياً (نحو 25 دولاراً أميركياً).
عندما يهبط الظلام يتجمع المشاركون في المغامرة الليلية أمام المدخل الرئيسي للمدينة، ليقودهم الدليل صوب السحر بعد أن تفتح الأبواب على همسات الشموع، عندها تصبح لكل خطوة حكاية، فالشموع المنثورة بداية الطريق في الفضاء الواسع تبدو خجولة وبالكاد يكفي وهجها لتأمين وصول الخطى إلى الشمعة التالية، وتسلمك شمعة إلى أخرى، حتى تحط الخطى على بوابة السيق فتصبح الحكايات مختلفة. هناك تتكاتف الشموع لتوفر إضاءة كافية للكشف عن فتنة الوردي في الصخور وما تضمه من رسومات ومنحوتات تؤرخ لثقافة سادت وآلهة بادت ومعابد اندثرت، ونظام الري المحفور على جانبي الطريق والذي لم تجر فيه نقطة ماء واحدة منذ زمن.
في السيق، الصمت هو الحاكم المطلق، والذي يتمرّد عليه بين الفينة والأخرى وقع خطوة على الأرض، أو تَـنْهيدَة إعجاب، أو عبارة اندهاش، وهو التمرد الذي يزداد كلما اقتربت نهاية السيق، حين تطل الخزنة بشكل تدريجي وقد أحاطها جيش من الشموع استطاع تحقيق نصر جزئي على الظلام. أمام الشموع التي تفصل بينهم وبين الخزنة، يجلس المشاركون ليختتموا رحلتهم على مذاق الشاي الممزوج بصوت الناي الذي ينساب من مكان خفي. وقبل المغادرة يروي الدليل حكاية البتراء والتي يدرك المستمعون أن أياما وسنين قد لا تكفي لروايتها.
في طريق العودة، تشيخ الشموع ويتناقص وهجها تدريجياً، وعند اجتياز الشمعة الأخيرة قرب البوابة تغرق المدينة في العتمة من جديد.
ويبلغ عدد الشموع المشاركة في الفعالية 1500 شمعة، موزعة ضمن ضوابط صارمة، بناءً على تعليمات (اليونسكو)، والتي تلزم القائمين على الفعالية بأن لا يتجاوز عدد الشموع أمام الخزنة 300 شمعة بعد أن كانت تقارب 1000 شمعة قبل أعوم، وهو العدد الذي خفّض بناءً على دراسات حذرت من تأثير الشموع على مستقبل الصخور المحفورة.
ومن الضوابط التي فُرضت أيضاً إلغاء كشافات الإضاءة التي كانت تستخدم في السابق وإلغاء الحفل الموسيقي الذي كان يقام أمام الخزنة، وكلها ضوابط تهدف (اليونسكو) من خلالها للحفاظ على المدينة من أي أضرار محتملة تؤثر على مستقبلها وجمالها الطبيعي.
الفعالية التي بدأت صاخبة خضعت للكثير من الضوابط التي أثرت عليها وصولاً لما هي عليه اليوم، والتي ساهمت بتسويق المدينة وزيادة عدد زوارها من مختلف أنحاء العالم، والذين أصبح بعضهم يقصدها لمشاهدتها ليلاً، وهي الساحرة في الصباح أيضاً.
المساهمون