"مُشتعل": موضوع مُكرّر ومعالجة بصرية عادية

07 اغسطس 2024
زرّار خان في "مهرجان تورنتو 2023" (ماتيو تزانغ/Getty)
+ الخط -

 

المرأة في "مُشتعل (In Flames، إنتاج باكستاني كندي، 2023)"، أول روائي طويل للباكستاني الكندي زرّار خان (1991)، موضوع أساسي، انطلاقاً من معاناتها ومشاكلها غير المنتهية، ليس في باكستان وحدها، كما في الفيلم، بل في معظم بلدان العالم الثالث. هذا موضوع قديم، يتجدّد تناوله دائماً، خاصة مع مخرجين مغتربين، لمعرفتهم الجيدة بأنّ مواضيع كهذه مُستحبّة في مهرجانات كبرى، تُقبل وتُعرض فيها عادة، ولو على حساب أفلامٍ أخرى أهمّ وأكثر جودة. اختيارات لها أسباب عدة، ليس طرحها هنا مناسباً.

قسّم خان موضوع "مُشتعل"، المعروض أولاً في "نصف شهر السينمائيين"، في الدورة الـ76 (16 ـ 27 مايو/أيار 2023) لمهرجان "كانّ"، الى ثلاثة أقسام، عن علاقات المرأة بالأسرة والدين والمجتمع. ثلاثية متداخلة ومتشابكة ومتكاثفة، لا يمكن الفكاك منها، خاصة في البلدان الإسلامية المنغلقة والمتشدّدة، التي تتّخذ من الدين مرجعاً أساسياً للتشريع، كباكستان. منطلقات سبّبت ألماً ومعاناة واضطهاداً، وجعلت المرأة أحد "الأشياء" غير المهمّة. هذا السلوك مُتوارث، يُطبّق بصرامة ومن دون اجتهاد، لأنه يُساعد على هيمنة المجتمع الذكوري: حرمان المرأة من حقّها في التوريث، والتلاعب بها وبما تملكه، ومحاصرتها من كلّ جهة، لمصادرة حقّها في اللجوء إلى القضاء، لتحصيل ما سلبه أقارب وأُسَر، لأنّه عيب وعار بنظر المجتمع. هذه خطوات غير مُستحبّة، بل إنّها فضيحة، تستوجب عقاباً وثأراً ممن تقوم بها.

هذه معطيات موجعة بحقّ المرأة، تناول "مُشتعل" بعضها، وبرزت الأخرى كتأويلٍ ومسايرة وإفرازات، ساهم السيناريو (كتابة خان نفسه) في الذهاب إليها مباشرة، لنقل المواجع والآهات بصورة مؤلمة، واستطاع إيصالها إلى المُشاهد بأشكالها المتعدّدة، خاصة بحسرات مدفونة في قلب الأم، التي ستُوَرِّث، بشكل ما، الابنة المحاصرة، هي أيضاً، بمشاكل لا تقلّ سوءاً عن مواجع أمّها.

القصة، التي تدور أحداثها في كراتشي، عن الأرملة فريحة (بختوار مظهر)، بعيد وفاة والدها الذي كان يرعاها مع ولديها. تجد نفسها وحيدة، مع ابنتها مريم (راميشا نوال)، 25 عاماً، وابنها الطفل بلال (جبران خان). فجأة، يظهر العم ناصر (عدنان شاه تيبو)، الذي تكفّل بمصاريف الجنازة، ودفع الدين المعلّق. اطمأنت فريحة له، وأصبح بنظرها منقذ الأسرة من مشاكلها. لكنّ مريم غير مطمئنّة إليه، فهو لم يسأل عنهم سابقاً قظ، ولم يساعدهم قط، فتحثّ أمها دائماً على ضرورة الانتباه منه، وعلى ألاّ توقّع على أي وثيقة يقدّمها لها. الأم تردّ بأنّ هذه أفكار سلبية يجب ألا تقولها، لأن ناصر صالحٌ برأيها.

 

 

بعد وقتٍ، يتبيّن صدق مريم: أرسل ناصر وثائق عبر المحامي، وقّعت عليها فريحة من دون علم ابنتها. لاحقاً، تفاجأ العائلة بالشرطة تُمهلها أياماً قليلة، كأنها خدمة شخصية، لإخلاء الشقة، فناصر أحد الورثة، وبعد التوقيع على الوثائق لم يعد لفريحة شيءٌ. عندها، بدأت تزداد مشاكل العائلة، خاصة أنّ مريم صديقة أسعد (عمر جافيد)، المقيم في كندا، الذي أحبّها واتّفق معها على نزهة في الشاطئ. عند عودتهما مساءً، يتعرّضان لحادث وهما على درّاجة نارية. تتركه مريم خوفاً من الفضيحة. ثم تتعقّد حياتهم أكثر، وتبرز عقبات أخرى، خاصة بعد موت أسعد في الحادث، وابتزاز سائق السيارة (محمد علي هاشمي) الذي أوصلها إلى البيت حينها، محاولاً فيما بعد اغتصابها.

اختار زرّار خان موضوعاً مُكرّراً، ومعالجة كلاسيكية عادية. فالقصة يمكن توقّع أحداثها بسهولة، ما يؤدّي إلى قتل الفرجة، ومحاصرة المنطلقات الإبداعية، وتقليص فرصة أنْ يكون له أسلوب مميّز خاص به. أي أنّه لم يبذل جهداً لتحسين السيناريو، وجعل القصة تُحدث أثراً بالغاً، مكتفياً بتقييد منافذه الإخراجية، والركون إلى مرجعيات سينمائية عادية، إذْ لم يظهر في البناء العام أي أسلوب يرتقي الفيلم به. اختار مكوّنات معروفة، قدّم بها الشخصيات بملامح غير مقنعة، تحمل صبغة انفعالية واحدة، كشخصيتي مريم وفريحة: ملامح جامدة وغير متطوّرة. التميّز صنعه عدنان شاه تيبو (ناصر)، بملامح قوية، ونبرة انفعالية مقنعة، وفهمٍ جيّد لدوره. الممثلون الآخرون لم يُحسنوا تقديم أدوارهم، فمنحوا شعوراً بأنّهم لم يشتغلوا السيناريو والحوار جيداً. ربما يعود هذا، أساساً، إلى خان، الذي لم يحسن إدارتهم، ولم يعرف كيف يستخرج ما فيهم من طاقات وحالات وانفعالات.

بعيداً عن الأحداث والمعالجة العادية، انكشفت ثغرات ومعطيات غير مُبرّرة درامياً، كالذي رمى حجراً على سيارة تقودها مريم. فخان ابتكر المشهد، الذي أتبعه بمشاهد أخرى، للقول إنّ مريم حفيدة شخصية مهمة، وهذا حشو يُستغنى عنه من دون أي ضرر، بل أنّ الاستغناء يُقوّيه. مشاهد الرعب (كوابيس وتخيّلات) ليست ضرورية بدورها، لعدم ربطها بسياق علمي، ووُظِّفت اعتباطياً. كان يُمكن لـ"مُشتعل" أنْ يكون أقوى بحذفها.

لكن خان أحسن اختيار فضاء التمثيل، بالشكل الداخلي للشقة والعمارة، ما يوحي بالطبقة المتوسّطة المُهمَلة. إضافة الى إطلالات على شواطئ المدينة المطلّة على بحر العرب، التي ضبط فيها مدير التصوير ايجول نوربولاتوفا "كادرات" جميلة للغاية، كتوزّع قوارب صغيرة عدّة في مكان محدود وصغير، وتصوير شوارع مختلفة. معطيات ساهمت في خلق جانب بصري مهمّ، لكنْ من دون المُساهمة في إيجاد لغة سينمائية تُربط بالموضوع، فبات التصوير جافاً، وقُدّمت لوحات من دون روح وارتباط درامي بالثيمة الأساسية.

المساهمون