جوستين ترييه لـ"العربي الجديد": أهتمّ كثيرًا بامرأة تتوق إلى الحرية وتبحث عنها

24 يونيو 2019
جوستين ترييه: علم النفس مهمّ في تاريخ السينما (فيسبوك)
+ الخط -
"سيبيل"، فيلمٌ أدخل المخرجة الفرنسية جوستين ترييه إلى المسابقة الرسمية للدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ" السينمائي. حكايات متداخلة، وتشويق وبسيكولوجيا: هذا بعض ما نراه ونعيشه بمشاعرنا وأعصابنا وحواسنا كلّها، في ثالث عمل روائي طويل لها.


الحكاية؟ سيبيل (فيرجيني ايفيرا)، طبيبة نفسية، تقرّر العودة إلى تأليف الروايات والتفرّغ له. تبحث عن شيء يُلهمها. تتصلّ بها ممثّلة شابة (أديل اكساركوبولوس) راجيةً استقبالها، وإيجاد حلّ لها في مسألة حملها من ممثّل، هو شريكها في فيلم يتمّ تصويره، وتتولّى الإخراج صديقته الألمانية (ساندرا هوللر). فهل تجد سيبيل ما يُحفّزها ويلهمها في هذه القصّة المعقّدة، التي تزجّنا في لعبة مرايا بين الواقع والمتخيل؟

في الآتي، حوار "العربي الجديد" مع جوستين ترييه، في محاولة لإضاءة بعض جوانب عمل ممتاز، يضع المرأة خلف الكاميرا وقبالتها.

(*) هل الفكرة الأساسية التي انطلقتِ منها هي تحقيق فيلم عن الإلهام؟
- بشكل أساسيّ، يتحدّث "سيبيل" عن فكرة أنّ الروائي يستطيع إنقاذنا من واقعنا. هذا فيلم عن شخصية لم تتصالح مع ما حصل لها في حياتها، وتعيش مع الأشباح التي حولها. وددتُ أنْ تكون الحالة الإبداعية التي أصوّرها مُحرِّكًا لانتهاك أشياء كثيرة. من هنا، خطرت في بالي فكرة إنجاز فيلم عن شخصية تعتقد أنها إذا ألّفت كتاباً، فهذا سيسمح لها باختراع نفسها مجدّداً، وصولاً إلى عيشها ولادة ثانية. الفيلم يستمر في التأكيد على أنّ الواقع يعود دائماً مهما أبعدته عنك، وهذا واضح في المشهد الأخير، عندما يطالب الطفل حسابات من أمه، رغم أن حياة هذه الأخيرة مشيّدة على نكران الواقع. في الفيلم، الجميع يتلاعبون بالجميع. بالنسبة إلى سيبيل، اللجوء إلى تأليف رواية يعني الإذعان لأنواع الانتهاكات كلّها. تخرج من الواقع وتدخل في الخيال، لتعيش أشياء لم يتسنَّ لها عيشها في الواقع.

(*) ما هي مصادر إلهامِكِ في فيلم كهذا؟
- أشياء معينة من حولي تلهمني. في الحقيقة، سيبيل ليست أنا. أمتعني كثيراً أخذ الشخصيات وتشويهها، كي لا تشبهني. "امرأة أخرى" لوودي آلن من الأفلام الباقية في بالي، منذ مرحلة الكتابة مع شريكي في التأليف أرتور هاراري. مبدأ السرد في فيلم آلن يُبهرني، رغم أنّي لا أعشق الفيلم نفسه: خلال بحثها عن السكينة والإلهام، تلتقي سيدةٌ بأخرى، وهذه الأخيرة "تفجّر" حياتها. هناك مواضيع عديدة في "سيبيل"، كيفية تعاطينا مع سؤال الجذور أحدها. أو كيف نصرف عمرنا في محاولة نسيان مَن نحن، ثم فجأة تظهر هذه الأسئلة مجدّداً. لذا، يُعتبر الفيلم عن الهوية والجذور: من أين أتيتُ؟ مَن أنا؟ ماذا فعلتُ في حياتي؟ هل يمكنني الولادة مُجدّدًا؟


(*) أحد فصول الفيلم يجري على جزيرة سترومبولي، حيث صوَّر روبرتو روسيليني فيلمه الشهير (1950). هل هذا من قبيل توجيه تحيّة إليه؟
- كانت الفكرة أن أبني فيلماً ذهنياً في جزئه الأول، خلال التعرّف على شخصية سيبيل، تجري أحداثه في بيئة مدينية، تغلب عليها الفوضى. ثم، في الجزء الثاني، خلق لحظة تدخل فيها سيبيل إلى الجانب الخيالي للفيلم. لذا، بحثتُ عن مكان تتوفّر فيه هذه العظمة: عظمة ديكورية معيّنة. في الحقيقة، لطالما جسّد فيلم "سترومبولي" شيئًا ميثولوجيًا في السينما. أُعجبتُ بفكرة أنْ أموضع شخصية سيبيل في ديكور كهذا. ديكور يكاد يكون سورياليًا، أو على الأقل غير حقيقي. السينما غيّرت وجه سترومبولي إلى الأبد. وجود البركان فيها يستحضر الاستعارات الجنسية كلّها. لم يكن التصوير في الجزيرة تحية لروسيليني، بل نتيجة رغبتي في إعطاء مخرجة ألمانية (ميكا) فرصة تحقيق "فانتازمها" بإنجاز فيلم حبّ فيها. لكني، في المقابل، استخدمتُ هذا الديكور لـ"أفجّر" الفيلم.

(*) عندما نرى شخصية المخرجة ميكا، لا يمكننا إلا التفكير بكِ. هل ميكا هي أنتِ؟
- (ضحك) صراحة، لم أجد نفسي إلى الآن في ظروف تصوير كارثية إلى هذا الحدّ. أغلب الظن أن هناك شيئًا منّي في شخصية ميكا. هناك دائمًا لحظة ما خلال التصوير حيث الواقع يفلت منك فجأة، ومن قدرتك على السيطرة عليه. عندما صوّرنا في سترومبولي، كانت هناك دينامية فريدة من نوعها بسبب البركان وغيره من العناصر الطبيعية. الإحاطة بعدد كبير من الناس خلال التصوير تفتح المجال لافتعال أزمات. مثلاً: خلال تصوير مشهد الخلاف بين ميكا والممثّلين على السفينة، كان أفراد طاقم التصوير جميعهم يتقيأون. كلّما واصلتُ التصوير، أدركتُ أن ما يحصل خلاله أقوى من أحداث الفيلم نفسه. لذا، كنتُ أعدِّل النصّ يوميًا، من وحي ما حدث أمس. عليه، أجد نفسي قريبة من سيبيل من نواحٍ معينة. مثلاً: أجد نفسي في الخياليّ أكثر منه في الواقعيّ.

(*) لماذا اخترتِ الألمانية ساندرا هوللر لدور ميكا بدلاً من ممثّلة فرنسية؟
- أعترف أنّي شغوفة بساندرا. عدّلتُ السيناريو قليلاً لأتمكّن من التصوير معها، فأنا معجبة جدًا بها.

(*) الفيلم مشغول جدًا على مستوى المونتاج والـ"استيتيك" وصناعة التشويق. يمكن القول إنّ له مكانًا خاصًا في المشهد العام للسينما الفرنسية الحالية، المُمعنة غالبًا في همّ الواقعية.
- صحيحٌ ما تقوله: ابتعدتُ بعض الشيء عن أفلامي الأولى، وتحديدًا عن الأول، "معركة سولفيرينو"، الذي كان وثائقيًا خامًا. مع مدير التصوير سيمون بوفيس، فكّرنا كثيرًا في الجانب البصري، وهذا يأتي أولاً من رغباتي كمُشاهِدة. سيطرَتْ عليّ رغبة في إعطاء المُشاهِد الإحساس بأنّه في صالة السينما.



(*) هل لديكِ اهتمامات بعلم النفس، أم أنّ علم النفس محرّك درامي لبناء القصّة؟
- علم النفس شيءٌ مهمٌّ جدًا في تاريخ السينما. أهميته كبيرة، سواء عند هيتشكوك أو آلن. لا يُمكن فصل السينما عن علم النفس، لذلك لا يسعني صرف النظر عنه. علم النفس يضطلع بدور مهم في أفلام كثيرة. ما كان يهمّني في هذا الفيلم هو أن علم النفس يجعله تجربة ذهنية، كما قلت لك في بداية حوارنا. هذا الشيء الفريد الذي يحدث لنا عندما نخضع لعلاج نفسي. هذا كلّه سمح لي بالاستفادة من هذا المناخ، لأدخل في حوار حميميّ مع الشخصيات التي أقدّمها. هذا هو الهدف الذي لجأتُ من أجله إلى علم النفس، وليس لأنّي مُنبهرةٌ به (علم النفس). كتابة السيناريو استدعت منّي لقاء أطباء نفسيّين، ليخبروني تجاربهم الصعبة مع بعض المرضى. طبيبة أخبرتني انها عاشت مرض والدها بالتزامن مع مرض والد مريض كانت تتابعه. لكن والد المريض مات قبل والدها. لهذا، وضعت حدًا للقاءات بينهما ولم تعد تتابعه، لأنها شعرت بأنّه انتهكها.

(*) بعد "فيكتوريا"، هذا التعاون هو الثاني لكِ مع فيرجيني ايفيرا.
- لمّا صوّرتُ "فيكتوريا" معها، كنت خجولة ولم أكن أعرفها جيدًا. حدث اللقاء بيننا في موقع التصوير. اكتشفت إحدانا الأخرى على البلاتو. عملية الألفة هذه جعلتني أخسر بعض الوقت في بداية التصوير. عادةً، لا أكتب السيناريو وفي بالي ممثّل معين. لا أحبّ فكرة القول لممثّل "سأكتب لك دورًا" (ضحك). أميل إلى مبدأ بناء الحكاية أولاً. لكن، هذه المرة، عندما بدأتُ الكتابة، خطر في بالي أنْ أعمل مع فيرجيني، للبحث عن الأشياء معاً. فنحن، بين الفيلمين، أمضينا وقتًا كثيرًا معًا، اكتشفتُ خلاله أنّها صاحبة وجوه متعدّدة لم أكن أعرفها، ولم أرها في السينما. أدركتُ أنْ لديها نوعًا من قناع تضعه على وجهها. هذا لفت انتباهي فيها، ومدّني بالفضول للبحث خلف هذا القناع. هذا كلّه ساهم في تغذية شخصية سيبيل.

(*) ختامًا، هل يُمكن ضمّ "سيبيل" إلى الأفلام النسوية؟
- الشخصيات النسائية التي تتوق إلى الحرية، وتبحث عنها بطريقة أو بأخرى، هي أكثر ما يهمّني. لستُ مهتمّة بسرد حكاية امرأة تكون ضحية موقف معين. علمًا أن سيبيل، في النهاية، ضحية، نوعًا ما. ضحية ماضيها الذي لم يكن سهلاً، وقصّة حبّها مع الشخصية التي يجسّدها نيل شنايدر. طبعًا، هي ليست بطلة قوية، إلا أنّ مشروع الرواية يوفّر لها فرصة الهروب من الواقع. في أفلامي، أروي غالبًا ما أريده. أحيانًا، أجدني أعكس الأدوار بين الرجال والنساء، ليبقى الرجل في المنزل ويهتمّ بشؤون الأطفال، بينما السيدة تذهب إلى العمل. حضور المرأة في السينما مسألة مهمّة، إلا أنّه يجب التحرّر منها (المسألة) فور البدء في الكتابة. هذا ما أفعله في ما يخصّني. تأثّرتُ في صغري بأعمال مخرجات نسويات، لكن معظم الأفلام التي شاهدتها في تلك الفترة من حياتي كانت من صنع الرجال، سواء كانوا خلف الكاميرا أو قبالتها. لم أتماهَ يومًا مع الشخصية النسائية، بل مع الرجل - بطل الفيلم. عندما كنتُ أشاهد كاري غرانت، كنت أتماهى مع كاري غرانت وليس مع الفتاة التي يقابلها بشكل عابر. لعلّ ما أفعله اليوم هو محاولة وضع المرأة محل كاري غرانت.

المساهمون