"سبنسر" بحسب بيتر بورغ: سينما الأكشن البوليسي

15 ابريل 2020
مارك ولبيرغ وإيليزا شْليزينغر وبيتر بورغ (كيفن وينتر/Getty)
+ الخط -
شرطيّ أميركي يخرج من السجن بعد 5 أعوام على إدخاله إليه بتهمة الاعتداء العنفي الجسدي على ضابط مسؤول عنه. التوتر متحكّم بينهما في فترة سابقة على الاعتداء. في السجن، يهدأ الشرطيّ، الذي يُقال له، إمّا تهكّماً وإمّا صدقاً، إنّه محبوبٌ من الجميع. لكن القائل ينهال عليه بالضرب رفقة آخرين ما إنْ يُنهي كلامه هذا. كاميرات المراقبة في الغرفة الكبيرة تكشف أنّ الشرطي السجين مُعتَدى عليه. إذاً، لا ضرورة لإجراءات صارمة، علماً أنّ موعد خروجه من السجن قريبٌ جداً.

تكثيف المرويّات في الدقائق الأولى من Spenser Confidential (تبثّه المنصّة الأميركية "نتفليكس" منذ 6 مارس/آذار 2020) كفيلٌ بوضع كلّ شيء في مكانه الدرامي. دقائق تُقدِّم شخصية الشرطيّ وشخصيات آخرين، ومع خروجه من السجن، ولقاء صديق له يستضيفه في منزله، تبدو الأمور عادية وبسيطة.

الشرطي يُدعى سبنسر، يؤدّيه الممثل مارك والبيرغ، في خامس فيلمٍ له مع المخرج بيتر بورغ. ابتكار الشخصية عائدٌ إلى الكاتب روبرت بي. باركر (1932 ـ 2010)، المشهور برواياته البوليسية، ومنها "سلسلة روايات سبنسر"، التي صدر منها 41 رواية، بين عامي 1973 و2013، علماً أنّ روايتيه الأخيرتين صادرتان بعد رحيله: الأولى مباشرة بعد وفاته بعنوان "Sixkill"، وثانية غير مُكتملة، تولّت الناشرة هِلن بْرَانّ (1932 ـ 2015) إكمالها وإصدارها عام 2013، بعنوان "ليلة صامتة".

لكنّ فيلم بيتر بورغ مأخوذ من رواية "وندرلاند" (2013)، للصحافي والكاتب آيس آتكنس، صاحب سلسلة روايات بوليسية أيضاً، بعضها مرتكز على الشخصية نفسها، التي تحمل عناوين مختلفة، ضمن عنوان ثابت "بحسب روبرت بي باركر" (هؤلاء جميعهم أميركيون).

في ليلته الأولى خارج السجن، التي يُمضيها في منزل صديقه هنري كيمولي (آلن آركن)، يُقتل جون بويلان (مايكل غاستن)، الضابط المسؤول السابق عن سبنسر. الشُبهات تُحام حوله فوراً، فغالبية رجال الشرطة في مركز بوسطن غير مرتاحين إلى زميلهم السابق. يزوره اثنان منهم صباح اليوم التالي، لطرح أسئلة سريعة عليه. لن يصمت سبنسر عن الجريمة، فهو يريد تأكيد براءته منها أمام الجميع. يزداد حماسة لتحقيق غير رسمي (فهو ممنوع عن العمل)، بعد مقتل زميل أسود له، معروف بنزاهته، هو الملازم تيرينس غراهام (براندن سكايلس). بمساعدة مقرّبين منه، يتجوّل سبنسر في حقلٍ من الألغام، فمركز شرطة بوسطن مليء بفاسدين وقتلة ومجرمين، والمصائب تحاصره، وكشف المتورّطين بجرائم قتل وفساد دونه مخاطر جمّة. في النهاية، يُحقِّق سبنسر انتصاره على الشرّ من أجل عدالة وحق.



كغالبية أفلام هذا النوع البوليسي، تُطرح مسائل تُختَزَل بثنائية الخير والشر، الحق والجور، العدالة والظلم، إلخ. ثنائيات تبرع سينما الأكشن البوليسي الأميركي في صُنع أفلامٍ منها، تُسلّي وتُشوِّق، وفي الوقت نفسه تؤكّد أنّ الخير والحق والعدالة منتصرة وغالبة من أجل أناسٍ يترفّعون عن الشرّ والجور والظلم، ويُحاربونها. نوع سينمائي يُنجز بحِرفية تسم أفلاماً عديدة لبيتر بورغ، بعضها مُشوّق، كـ"المملكة" (2007)، عن بطولات عملاء تابعين لـ"المكتب الفيدرالي للتحقيقات (أف بي آي)" في مطاردتهم إرهابيين يعتدون على مقرّ سكني للأميركيين المُقيمين في الرياض السعودية (من أجواء الاعتداء الإرهابي على أميركيين في "الخُبَر" السعودية، في 25 يونيو/حزيران 1996). أو كـ"يوم الوطنيين" (2016)، ثالث الأفلام المشتركة بينه وبين ولبيرغ، المستمدّ من الاعتداء الإرهابي على مشاركين في النسخة 117 لماراتون مدينة بوسطن، في 15 إبريل/نيسان 2013: تحقيقات مكثّفة لكشف الفاعلين (الأخوان الشيشانيان دجوكار وتامرلان تْسَارماييف).

لكن لبورغ اختبارات سينمائية أخرى أيضاً: ثنائية الكوميديا والدراما (أشياء سيئة للغاية، 1998) والفانتازيا (هانكوك، 2008) وخيال العلم (سفينة حربية، 2012). مع "سبنسر"، يستعيد ما يبدو أنّه الأنجح في إنجازه: التشويق البوليسي. أول تعاون له مع مارك ولبيرغ، حصل عام 2013، وحمل عنوان "الناجي الوحيد" (Lone Survivor): مُقتبس من كتاب "الناجي" (2007 الطبعة الأصلية الأولى، 2013 الترجمة الفرنسية) للجندي ماركوس لوتّريل (الفرقة الخاصة في البحرية الأميركية ـ Navy SEAL) والكاتب البريطاني باتريك روبنسن. يتابع الفيلم وقائع عملية عسكرية فاشلة للفرقة نفسها، مُنفّذة ضد "طالبان" في أفغانستان (28 يونيو/حزيران 2005). التعاون الثاني حاصلٌ عام 2016، بعنوان Deepwater Horizon، يستند إلى مقالة ديفيد بارستو وديفيد رود وستفاني سول "الساعات الأخيرة لديبووتر أورايزون"، منشورة في "نيويورك تايمز" (25 ديسمبر/كانون الأول 2010)، عن كارثة موقع نفط في خليج المكسيك (20 إبريل/نيسان 2010). قبل عامين، يُشارك مارك ولبيرغ في "الميل 22"، في رابع تعاون له مع بيتر بورغ: فيلم مُشوّق، يغوص في تداعيات صراعٍ بين عملاء "وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)" و"جهاز الأمن الروسي (FSB)".

في هذا كلّه، كما مع سبنسر، ينسج بيتر بورغ أفلامه المُشوّقة، البوليسية والحربية والكارثية، بشكلٍ تقليدي، وإنْ تتضمّن مَشَاهد "تحبس الأنفاس" أحياناً. وإذْ يحتال على تفكيرٍ يجعله مدافعاً عن القيم الأميركية الرسمية، في معركة دائمة ضد الأشرار (غير الأميركيين)، فإنّ "الناجي الوحيد" يبتعد عن كلّ إدانة واضحة، لاقترابه أكثر من حسّ فرديّ بخيبة أو خرابٍ.
المساهمون