عن أصدقائي في ذاكرة دوما الجريحة

19 اغسطس 2015
واقع الغوطة (عبد دوماني، فرانس برس)
+ الخط -
 
تُعتبر دوما، الواقعة في غوطة دمشق الشرقية، من المناطق المنكوبة التي تحمّلت التنويعات المروعة التي صبّها النظام بالقصف والحصار والتدمير. ويكاد لا يخلو شهر أغسطس/آب من الذكريات الأليمة التي وثّقتها الصور. فقبل عامين ارتكب نظام بشار الأسد مجزرة بحقّ سكان المدينة، حين استهدف حاراتها بقصف كيمائي فقتل العشرات وتسبّب بأضرار لا تزال صورها حاضرةً في ذاكرتنا حتّى اليوم.

الغازات السامة رافقت المدينة خلال معاركها المختلفة، فبرز اسم "الغوطة" مراراً وتكراراً على نشرات الأخبار، مرةً كان غاز السارين، ومرّة برميل على الأسواق، أو قصف مسجدٍ يوم الجمعة، أو رصاصةٌ اخترقت قلب مراسل صحفي، أو أطفال كانوا يلهون بالقرب من منازلهم قبل أن يفاجئهم قصف النظام، لتوثّق الكاميرات صدفةً أقسى مشاهد الخسارة السورية: طفلٌ يبحث عن شقيقه بين بقايا الحائط القديم، وفي الخلفية درّاجةٌ زهرية، وسط غُبار الدمار.

"لازم نعمل شي.. ما بعرف.. ما لازم نسكت على يلي صار"، قال لي صديقي الذي غادر الغوطة منذ أكثر من سنة ليستقرّ في بيروت، بعد إصابات تلقّاها خلال تغطيته المعارك الدامية.

صمتنا دقائق. ثم عبّرت له عن حزني لما يحصل اليوم في دوما بعدما تسبّب قصف النظام باستشهاد أكثر من 100 مدني كانوا يجوبون أسواق المدينة، وجرح أكثر من 300.

صديقٌ آخر، لبنانيّ، طلب منّي ألّا ننسى إحياء ذكرى مجزرة الغوطة الكيميائية، ولو بوقفة تضامنية. لكنّني لم أقوَ على الموافقة أو الرفض. إذ قضيت الليالي الماضية أسهر قبالة فيسبوك، أتربّص بصفحات الأصدقاء الذين يعملون على تصوير وتغطية ما يحصل في دوما. وكلّما ظهر اسم شهيدٍ جديد على الشاشة، أشيح بنظري، رافضةً الرضوخ إلى صورةٍ قد تكون صورة صديقي الأخيرة.

كاميرات الغوطة الشرقية لم تغب يوماً عن الساحة، ونتساءل أحياناً، فنسألهم: "ألا يخافون؟". أم تراهم خسروا كلّ شيء والموت لم يعد مخيفاً ولا في الحسبان؟

اقرأ أيضاً: الكاميرا والثورة: الشاهد الوحيد الصادق للوجع والموت 

تأتي الإجابات الواضحة بعد نشرهم صورهم وهم يستغلّون يوماً مشمساً للتجوّل في أنحاء المدينة الهادئة نسبياً، وتوثيق ابتسامات أطفالها، أو خلال ليلة هادئة أمضوها على سطوح دوما، بين المباني التي حملت ذكريات الموت أو الاستشهاد. أمّا الإجابات الأصدق، فتأتي بعد كتابتهم عن دوما. أحدهم كتب هذا النصّ على فيسبوك:

"سأكتب لكِ دوماً .. لن أتوقف .. ولو توقفت الأنفاق عن إدخال الأقلام،
سأكتب لكِ كم أنا بعيد ومهمل ومشرد.. من كثرة الأنفاق،
سأكتب لكِ كم أنا جائع.. عن السمفونيات التي تصدر من معدتي الآن..
سأكتب أيضاً ذكريات الفواكه والخضار الطازجة واللحم المشوي..
سأكتب عن الكوسا والرز..
سأكتب عن بقايا أرغفة الخبز المكسرة.. الجافّة.. القاسية.. بما أنها الوجبة الرئيسية هنا
سأكتب لكِ عن المعارك.. عن أصوات الرصاص.. عن الطائرة
.. عن كلّ شيء أراه يومياً
سأكتب لكِ عن جارنا الكهل.. سأكتب لكِ عن أمي. عن عذابها وأملها. عن وجهها الصبوح..
سأكتب عن النفاق والرياء وتمسيح الجوخ.. الذي يعتبر الآن بنية أساسية للمجتمع هنا..
سأكتب لكِ كم تمنيتُ ألا أكتب لكِ أيّ شيء...".

في الغوطة، نفقد التواصل مع الأصدقاء لأيّام أحياناً، أو لأشهر. وأحياناً نتفادى التواصل معهم. نحاول الاعتياد على غيابهم، حتى إذا غيّبهم الموت يوماً، لعلّنا نجد في نفوسنا القليل من القوّة للاستمرار.

اقرأ أيضاً: هوية السوريين: من الأحمر إلى الأخضر فالأسود
المساهمون