بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر)، عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءاته مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس وغيرها من العواصم.
هل كان الشاعر محمد الفيتوري سودانيّاً كما عرَفه الناس منذ بداياته وحتى شهرته، أم كان شاعرا ليبيّاً كما أصبحت صفته في سنواته الأخيرة وحتى نهاية عمره؟
كان محمد الفيتوري مزيجاً من هذا وذاك من الأقطار، درويشاً متجولاً بين الأمصار. ولد سنة 1936 (وربما قبل ذلك بسنتين أو ثلاث) في مدينة الجنينة، غربي دارفور، على تخوم ليبيا، من أبوين ليبيين. ربِيَ في أحضان جدته السودانية. نشأ في مصر بعدما انتقل والداه إلى الإسكندرية حيث تلقى علومه الأولى التي أكملها في القاهرة في المعهد الأزهري ثم في دار العلوم. عاش سنوات بين مصر والسودان عاملاً في الصحافة والإذاعة ثم خبيراً إعلامياً في جامعة الدول العربية سنة 1968 ولمدة عامين.
زار لبنان في الأيام الأخيرة من سنة 1969 ممثلاً شعراء السودان في المهرجان الشعري الذي أقيم في ذكرى مرور عام على وفاة الشاعر عبد الله الخوري، الأخطل الصغير. وطاب له العيش في بيروت فاستقر فيها وعمل كاتباً صحافياً في مجلة "الأسبوع العربي". وفي 1974 وبسبب قصيدة لاهبة في ذكرى شنق المناضل السوداني اليساري الكبير عبد الخالق محجوب، أسقط عنه الرئيس السوداني جعفر نميري الجنسية السودانية، وضغط على الحكومة اللبنانية فأبعدته خارج الحدود فلجأ إلى دمشق وأقام فيها سنة.
اقــرأ أيضاً
بعدها زار ليبيا فمنحه العقيد معمر القذافي جواز سفر دبلوماسياً وأضحى الملحق الثقافي في عدة سفارات ليبية: في روما سنة 1976، ومنها إلى بيروت مطلع الثمانينيات، ثم في المغرب إلى حين انهيار نظام القذافي ومصرعه في 2011، فأسقطت عنه الجنسية الليبية، لكنه ظل مقيماً في الرباط. وكانت الحكومة السودانية منحته سنة 2014 الجنسية وأرسلت إليه جواز سفر لم يستخدمه. وسافر بعدها بسنة إلى الدار الآخرة في 24 مايو/ أيار 2015.
ويمكن اختصار سيرة حياة محمد الفيتوري بأنه سوداني المولد والبيئة الأولى، مصري النشأة والوعي، لبناني الهوى، مغربي الرباط الأخير. وصف المفكر السياسي والأديب المصري محمود أمين العالم الذي قدّم لديوان الفيتوري الأول "أغاني إفريقيا" بدايات شاعرنا بأنه "لم يكن يستشعر انتساباً حقيقياً إلى وطن".
ومن طريق محمود أمين العالم تعرفت على شعر محمد الفيتوري. كان العالم يدرّسنا مادة النقد الأدبي وطلب منّا أن نحلل قصيدة "تحت الأمطار"، ومطلعها "أيها السائق رفقاً بالخيول المتعبةْ/ قف.. فقد أدمى حديد السرج لحم الرقبة/ قف.. فإِن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه/ هكذا كان يغني الموت حول العربة/ وهي تهوي تحت أمطار الدجى مضطربة!".
ثم عرفت محمد الفيتوري شخصياً أيضاً بوساطة محمود العالم. كانا معاً في "المسرح القومي" في القاهرة وكنت في تلك الليلة موجوداً أيضاً، أشاهد مسرحية "تاجر البندقية" (شكسبير). في فترة الاستراحة لمحني وناداني وقدمني إلى الفيتوري قائلاً: "هذا الطالب كتب أفضل تعليق عن قصيدتك". أعطاني هذا التقديم تأشيرة دخول سريعة إلى قلب الشاعر!
وكنت موجوداً في قاعة اليونسكو في بيروت يوم ألقى الفيتوري قصيدته في الأخطل الصغير التي قال في مطلعها "قف خشوعاً واخفض الرأس.. فقد أشعل الموتى القناديل وقاموا/ والذي تبصره عيناك في ذلك الضوء الرمادي زحامُ"، وفيها امتدح بشارة الخوري قائلاً: "أنت في لبنان.. والشعر له في ربى لبنان عرشٌ ومقامُ/ شاده الأخطلُ قصراً عالياً، يزلق الضوءُ عليه والغمامُ/ وتبيت الشمس في ذروته كلّما داعب عينيها المنامُ". بعد ختام المهرجان الشعري سلّمت عليه وأخبرته أنني كنت معجباً بشعره فصرت معجباً بإلقائه أيضاً.
اقــرأ أيضاً
وكنت موجوداً يوم الاحتفال بالذكرى الخمسين لوفاة الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة في بلدته ذوق مكايل سنة 1997. وكان محمد الفيتوري أحد الشعراء المشاركين، واستهل قصيدته بقوله: "ساجٍ.. وفي مقلتيك الشعرُ يلتهبُ/ وغائم ويداك النار والذهبُ/ ما كان أبهاك لولا أنه قدرٌ/ يقسو، ويلهو، ويسترضي وينتخبُ/ ما كان أغناك بالأحلام لو صدقت أحلامُ من سكنوا في الضوء واحتجبوا". والقصيدة في شكلها تنتمي إلى الشعر العمودي الكلاسيكي وإن كانت في مضمونها حداثية. والفيتوري كتب القصائد العمودية وكتب قصائد التفعيلة. لكنه بذكائه كان يعرف أن جمهور المهرجانات يطرب للشعر العمودي المنبري ويترنح مع الأوزان والقوافي، خصوصاً إذا كان الشاعر يجيد الإلقاء.
وبين المهرجانين عدة لقاءات في بيروت. ذات يوم في مقهى "الهورس شو" في شارع الحمراء، كنت جالساً مع الفيتوري نتحدث عن دواوينه الثلاثة الأولى: "أغاني إفريقيا" و"اذكريني يا إفريقيا" و"عاشق من إفريقيا". وفيها كان شاعراً أفريقياً بامتياز معتزّاً ببشرته السمراء وبانتمائه إلى القارة المظلومة. رددت على مسمعه مطلع قصيدة شهيرة له "قلها لا تجبن.. لا تجبن! قلها في وجه البشريةْ/ أنا زنجي وأبي زنجي الجدْ، وأمي زنجيةْ"، فأجابني بمطلع قصيدة أخرى له: "ألئن وجهي أسودٌ.. ولئن وجهك أبيض، سمّيتني عبدا/ ووطئتَ إنسانيتي وحقّرتَ روحانيتي، فصنعت لي قيداً/ وشربتَ كرمي ظالماً.. وأكلت بقلي ناقماً.. وتركت لي الحقدا؟". قلت له "عرفتُ شعر الزنوجة من اثنين: الرئيس السنغالي ليوبولد سنغور وقصائده الفرنسية، وأنت وقصائدك العربية"، فعلّق قائلاً: "وشاعرنا السوداني الكبير التيجاني يوسف البشير". وأطلّ الصديق المشترك المخرج الصحافي والناقد فاروق البقيلي، وأطلع الفيتوري على التصميم الذي وضعه لغلاف ديوانه الجديد "معزوفة لدرويش متجول".
لم أكن اطلعت على الديوان بعد، فسألت هل الدرويش أفريقي؟ أجاب فاروق البقيلي: "هو درويش صوفي متجول بين الأمكنة والثقافات"، وعلّق الفيتوري: "والدي مفتاح رجب الفيتوري كان شيخ طريقة صوفية. وأنا منذ تفتّح وعيي نشأت في بيت غارق في الصوفية". وأبدى البقيلي إعجابه بقصيدة "ياقوت العرش"، فشرح الفيتوري أنه من الميثولوجيا السودانية. ومطلع هذه القصيدة: "دنيا لا يملكها من يملكها/ أغنى أهليها سادتها الفقراء/ الخاسر من لم يأخذ منها/ ما تعطيه على استحياء/ والغافل من ظن الأشياء/ هي الأشياء". أما عنوان الديوان فهو عنوان القصيدة الأولى فيه، وهي صوفية أيضاً اشتهرت منها أبيات: "في حضرة من أهوى/ هاجت بي الأشواقْ/ حدّقتُ بلا وجهٍ/ ورقصتُ بلا ساقْ/ وزحمْتُ براياتي وطبولي الآفاقْ/ عشقي يُفني عشقي وفنائي استغراقْ/ مملوككَ لكني سلطان العشاقْ".
ومرة كنت جالساً في مقهى "الدولتشه فيتا" في حيّ الروشة في بيروت فأقبل الفيتوري نحوي وقال: "في طريقي إلى هنا مررت بأنطلياس واستوقفني صوت فيروز ترتل ترتيلاً دينياً منبعثاً من كنيسة هناك". كانت ليلة الجمعة الحزينة. وسألني عن الترتيلة التي سمعها "اليوم عُلّق على خشبة" وقال إنه وجدها من الشعر الخالص، وطلب مني إنْ كنت أحفظ كلماتها أن أمليها عليه. فعلت وكتب.
كان الفيتوري يحب لبنان وشعراء المهجر وكان من عشاق جبران. وله قصائد في شعراء لبنان. غير رثاء الأخطل الصغير وخمسينية أبو شبكة، كتب قصيدة في رثاء جورج غانم، وكان سيمثل السودان في المهرجان التكريمي لأمين نخلة سنة 1973 الذي أُلغي بسبب اغتيال الشاعر الفلسطيني كمال ناصر قبل ثلاثة أيام. وللفيتوري قصيدة أخرى في ذكرى الأخطل الصغير ألقاها في بيروت سنة 1994 ومطلعها "آتٍ.. بلى.. كيف تدعوني وأحتجبُ؟ إني إلى شعرك العلوي أنتسبُ (...) كأن لي منك في لبنان عائلة من النجوم تغنّي وهي تنتحبُ (...) كأن بعض وصاياك الجليلة في عينيّ.. إن جليل الحبّ ما تهَبُ".
وفي مطلع ثمانينيات القرن العشرين اختطف محمد الفيتوري في بيروت ثم أطلقت حركة "أمل" سراحه بعد ثلاثة أيام من من دون أن يمسّه سوء. كانت الخلافات على أشدها بين حركة أمل والنظام الليبي بسبب اختفاء الإمام موسى الصدر، وكاد الفيتوري أن يدفع الثمن وكان يومها ملحقاً ثقافياً في سفارة ليبيا. وكنتُ التقيته في روما في أواخر السبعينيات وكان أيضاً في منصب الملحق الثقافي ونقلت إليه أن النخب العربية تنظر إليه نظرة سلبية بسبب عمله في سفارات "الأخ معمر القذافي"، فأجابني مدافعاً عن نفسه: "أولا أنا ابن والدين ليبيين. فلا غرابة في أن أحمل الجنسية الليبية. وقبيلة الفواتير منتشرة في ليبيا والسودان بل وفي تونس أيضاً. يوجد حاليا في تونس وزير من الفواتير بل ويدعى محمد الفيتوري هو الآخر! (كان آنذاك وزيرَ الخارجية). وحين أسقطت حكومة جعفر نميري عني الجنسية السودانية وصرت بلا أوراق ثبوتية، منحتني الحكومة الليبية الجنسية وجواز سفر دبلوماسياً، فلماذا أتنكر لها؟".
وفي لقاء آخر سألته كيف يكتب قصائد في مدح رؤساء اتسموا بالدكتاتورية مثل معمر القذافي وصدام حسين الذي منحه جائزة مالية يسيل لها اللعاب، فلزم الصمت ثم تنهد وقال: "من شابه المتنبي فما ظلم. احسبهم سيف الدولة الحمداني أو كافور الإخشيدي".
تزوج محمد الفيتوري ثلاث مرات. كانت الأولى فتاة فلسطينية عرفها في القاهرة، ولم تدم الزيجة طويلاً لأنها ماتت محترقة. والزوجة الثانية سودانية، هي الممثلة التي أصبحت نجمة المسرح آسيا عبد الماجد ومنها أنجب ولدا (تاج الدين) وابنة (سولارا.. على اسم مسرحية شعرية له). والثالثة والأخيرة هي المغربية رجات أرماز التي تزوجها في الرباط سنة 1995 وعاشت معه عشرين عاما حتى وفاته. أنجبت ابنة سمّياها "أشرقت" وهو اسم بصيغة فعل. وأطلقا اسمها على دارتهما في ضاحية سيدي العابد المطلة على المحيط الأطلسي، جنوب الرباط. وهي الآن تدرس الفلسفة والحقوق في الولايات المتحدة الأميركية.
في عام 2005 الذي نشر فيه آخر دواوينه "عرياناً يرقص في الشمس"، أصيب محمد الفيتوري بجلطة في الدماغ تركت أثرها السلبي في صحته البدنية والذهنية. تم علاجه في باريس والرباط وشفي تقريباً، لكن الجلطة هاجمته من جديد فأصابته بشلل جزئي وبعدم القدرة على الكلام بوضوح.
وفي 2013 زرته في "فيلا أشرقت" في المغرب. كان المرض قد تملك منه ويعيش أيامه برعاية شاملة من زوجته السيدة رجات. تملك مني الحزن لأنه لم يبادلني الكلام وإن كان استقبلني بابتسامة. حاولت أن أستدرجه في الكلام وقرأت على مسامعه قصيدته عن بيروت "الزائر والأسئلة" ومطلعها "أبطأتَ، وهي وراء الباب تنتظرُ/ هل جئت تحيي الهوى أم جئتَ تعتذرُ؟". حاولت أن أحيي الذكريات وكلمته عن بيروت التي أحبها، عن الأصدقاء الذين أحبهم ومنهم الشاعر والموسيقي منصور رحباني، عن المقاهي والمطاعم التي أحبها، لكن من دون مشاركة تشفي الغليل.
وكان الشاعر المصري فاروق شوشة قد أعلن وفاة الفيتوري قبل أوانها نقلا عن خبر مغلوط سمعه في الرباط ورثاه بكلمة بليغة وتبعه شعراء وأدباء. لكن النفي أتى من زوجته. ولو كان محمد الفيتوري بكامل وعيه آنذاك لردّ على النعي الكاذب بأبيات قالها من قبل في ذكرى عبد الخالق محجوب: "لا تحفروا لي قبراً/ سأرقد في كل شبر من الأرض/ أرقد كالماء في جسد النيل/ أرقد كالشمس فوق حقول بلادي/ مثلي أنا ليس يسكن قبراً".
كان محمد الفيتوري مزيجاً من هذا وذاك من الأقطار، درويشاً متجولاً بين الأمصار. ولد سنة 1936 (وربما قبل ذلك بسنتين أو ثلاث) في مدينة الجنينة، غربي دارفور، على تخوم ليبيا، من أبوين ليبيين. ربِيَ في أحضان جدته السودانية. نشأ في مصر بعدما انتقل والداه إلى الإسكندرية حيث تلقى علومه الأولى التي أكملها في القاهرة في المعهد الأزهري ثم في دار العلوم. عاش سنوات بين مصر والسودان عاملاً في الصحافة والإذاعة ثم خبيراً إعلامياً في جامعة الدول العربية سنة 1968 ولمدة عامين.
زار لبنان في الأيام الأخيرة من سنة 1969 ممثلاً شعراء السودان في المهرجان الشعري الذي أقيم في ذكرى مرور عام على وفاة الشاعر عبد الله الخوري، الأخطل الصغير. وطاب له العيش في بيروت فاستقر فيها وعمل كاتباً صحافياً في مجلة "الأسبوع العربي". وفي 1974 وبسبب قصيدة لاهبة في ذكرى شنق المناضل السوداني اليساري الكبير عبد الخالق محجوب، أسقط عنه الرئيس السوداني جعفر نميري الجنسية السودانية، وضغط على الحكومة اللبنانية فأبعدته خارج الحدود فلجأ إلى دمشق وأقام فيها سنة.
بعدها زار ليبيا فمنحه العقيد معمر القذافي جواز سفر دبلوماسياً وأضحى الملحق الثقافي في عدة سفارات ليبية: في روما سنة 1976، ومنها إلى بيروت مطلع الثمانينيات، ثم في المغرب إلى حين انهيار نظام القذافي ومصرعه في 2011، فأسقطت عنه الجنسية الليبية، لكنه ظل مقيماً في الرباط. وكانت الحكومة السودانية منحته سنة 2014 الجنسية وأرسلت إليه جواز سفر لم يستخدمه. وسافر بعدها بسنة إلى الدار الآخرة في 24 مايو/ أيار 2015.
ويمكن اختصار سيرة حياة محمد الفيتوري بأنه سوداني المولد والبيئة الأولى، مصري النشأة والوعي، لبناني الهوى، مغربي الرباط الأخير. وصف المفكر السياسي والأديب المصري محمود أمين العالم الذي قدّم لديوان الفيتوري الأول "أغاني إفريقيا" بدايات شاعرنا بأنه "لم يكن يستشعر انتساباً حقيقياً إلى وطن".
ومن طريق محمود أمين العالم تعرفت على شعر محمد الفيتوري. كان العالم يدرّسنا مادة النقد الأدبي وطلب منّا أن نحلل قصيدة "تحت الأمطار"، ومطلعها "أيها السائق رفقاً بالخيول المتعبةْ/ قف.. فقد أدمى حديد السرج لحم الرقبة/ قف.. فإِن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه/ هكذا كان يغني الموت حول العربة/ وهي تهوي تحت أمطار الدجى مضطربة!".
ثم عرفت محمد الفيتوري شخصياً أيضاً بوساطة محمود العالم. كانا معاً في "المسرح القومي" في القاهرة وكنت في تلك الليلة موجوداً أيضاً، أشاهد مسرحية "تاجر البندقية" (شكسبير). في فترة الاستراحة لمحني وناداني وقدمني إلى الفيتوري قائلاً: "هذا الطالب كتب أفضل تعليق عن قصيدتك". أعطاني هذا التقديم تأشيرة دخول سريعة إلى قلب الشاعر!
وكنت موجوداً في قاعة اليونسكو في بيروت يوم ألقى الفيتوري قصيدته في الأخطل الصغير التي قال في مطلعها "قف خشوعاً واخفض الرأس.. فقد أشعل الموتى القناديل وقاموا/ والذي تبصره عيناك في ذلك الضوء الرمادي زحامُ"، وفيها امتدح بشارة الخوري قائلاً: "أنت في لبنان.. والشعر له في ربى لبنان عرشٌ ومقامُ/ شاده الأخطلُ قصراً عالياً، يزلق الضوءُ عليه والغمامُ/ وتبيت الشمس في ذروته كلّما داعب عينيها المنامُ". بعد ختام المهرجان الشعري سلّمت عليه وأخبرته أنني كنت معجباً بشعره فصرت معجباً بإلقائه أيضاً.
وكنت موجوداً يوم الاحتفال بالذكرى الخمسين لوفاة الشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة في بلدته ذوق مكايل سنة 1997. وكان محمد الفيتوري أحد الشعراء المشاركين، واستهل قصيدته بقوله: "ساجٍ.. وفي مقلتيك الشعرُ يلتهبُ/ وغائم ويداك النار والذهبُ/ ما كان أبهاك لولا أنه قدرٌ/ يقسو، ويلهو، ويسترضي وينتخبُ/ ما كان أغناك بالأحلام لو صدقت أحلامُ من سكنوا في الضوء واحتجبوا". والقصيدة في شكلها تنتمي إلى الشعر العمودي الكلاسيكي وإن كانت في مضمونها حداثية. والفيتوري كتب القصائد العمودية وكتب قصائد التفعيلة. لكنه بذكائه كان يعرف أن جمهور المهرجانات يطرب للشعر العمودي المنبري ويترنح مع الأوزان والقوافي، خصوصاً إذا كان الشاعر يجيد الإلقاء.
وبين المهرجانين عدة لقاءات في بيروت. ذات يوم في مقهى "الهورس شو" في شارع الحمراء، كنت جالساً مع الفيتوري نتحدث عن دواوينه الثلاثة الأولى: "أغاني إفريقيا" و"اذكريني يا إفريقيا" و"عاشق من إفريقيا". وفيها كان شاعراً أفريقياً بامتياز معتزّاً ببشرته السمراء وبانتمائه إلى القارة المظلومة. رددت على مسمعه مطلع قصيدة شهيرة له "قلها لا تجبن.. لا تجبن! قلها في وجه البشريةْ/ أنا زنجي وأبي زنجي الجدْ، وأمي زنجيةْ"، فأجابني بمطلع قصيدة أخرى له: "ألئن وجهي أسودٌ.. ولئن وجهك أبيض، سمّيتني عبدا/ ووطئتَ إنسانيتي وحقّرتَ روحانيتي، فصنعت لي قيداً/ وشربتَ كرمي ظالماً.. وأكلت بقلي ناقماً.. وتركت لي الحقدا؟". قلت له "عرفتُ شعر الزنوجة من اثنين: الرئيس السنغالي ليوبولد سنغور وقصائده الفرنسية، وأنت وقصائدك العربية"، فعلّق قائلاً: "وشاعرنا السوداني الكبير التيجاني يوسف البشير". وأطلّ الصديق المشترك المخرج الصحافي والناقد فاروق البقيلي، وأطلع الفيتوري على التصميم الذي وضعه لغلاف ديوانه الجديد "معزوفة لدرويش متجول".
لم أكن اطلعت على الديوان بعد، فسألت هل الدرويش أفريقي؟ أجاب فاروق البقيلي: "هو درويش صوفي متجول بين الأمكنة والثقافات"، وعلّق الفيتوري: "والدي مفتاح رجب الفيتوري كان شيخ طريقة صوفية. وأنا منذ تفتّح وعيي نشأت في بيت غارق في الصوفية". وأبدى البقيلي إعجابه بقصيدة "ياقوت العرش"، فشرح الفيتوري أنه من الميثولوجيا السودانية. ومطلع هذه القصيدة: "دنيا لا يملكها من يملكها/ أغنى أهليها سادتها الفقراء/ الخاسر من لم يأخذ منها/ ما تعطيه على استحياء/ والغافل من ظن الأشياء/ هي الأشياء". أما عنوان الديوان فهو عنوان القصيدة الأولى فيه، وهي صوفية أيضاً اشتهرت منها أبيات: "في حضرة من أهوى/ هاجت بي الأشواقْ/ حدّقتُ بلا وجهٍ/ ورقصتُ بلا ساقْ/ وزحمْتُ براياتي وطبولي الآفاقْ/ عشقي يُفني عشقي وفنائي استغراقْ/ مملوككَ لكني سلطان العشاقْ".
ومرة كنت جالساً في مقهى "الدولتشه فيتا" في حيّ الروشة في بيروت فأقبل الفيتوري نحوي وقال: "في طريقي إلى هنا مررت بأنطلياس واستوقفني صوت فيروز ترتل ترتيلاً دينياً منبعثاً من كنيسة هناك". كانت ليلة الجمعة الحزينة. وسألني عن الترتيلة التي سمعها "اليوم عُلّق على خشبة" وقال إنه وجدها من الشعر الخالص، وطلب مني إنْ كنت أحفظ كلماتها أن أمليها عليه. فعلت وكتب.
كان الفيتوري يحب لبنان وشعراء المهجر وكان من عشاق جبران. وله قصائد في شعراء لبنان. غير رثاء الأخطل الصغير وخمسينية أبو شبكة، كتب قصيدة في رثاء جورج غانم، وكان سيمثل السودان في المهرجان التكريمي لأمين نخلة سنة 1973 الذي أُلغي بسبب اغتيال الشاعر الفلسطيني كمال ناصر قبل ثلاثة أيام. وللفيتوري قصيدة أخرى في ذكرى الأخطل الصغير ألقاها في بيروت سنة 1994 ومطلعها "آتٍ.. بلى.. كيف تدعوني وأحتجبُ؟ إني إلى شعرك العلوي أنتسبُ (...) كأن لي منك في لبنان عائلة من النجوم تغنّي وهي تنتحبُ (...) كأن بعض وصاياك الجليلة في عينيّ.. إن جليل الحبّ ما تهَبُ".
وفي مطلع ثمانينيات القرن العشرين اختطف محمد الفيتوري في بيروت ثم أطلقت حركة "أمل" سراحه بعد ثلاثة أيام من من دون أن يمسّه سوء. كانت الخلافات على أشدها بين حركة أمل والنظام الليبي بسبب اختفاء الإمام موسى الصدر، وكاد الفيتوري أن يدفع الثمن وكان يومها ملحقاً ثقافياً في سفارة ليبيا. وكنتُ التقيته في روما في أواخر السبعينيات وكان أيضاً في منصب الملحق الثقافي ونقلت إليه أن النخب العربية تنظر إليه نظرة سلبية بسبب عمله في سفارات "الأخ معمر القذافي"، فأجابني مدافعاً عن نفسه: "أولا أنا ابن والدين ليبيين. فلا غرابة في أن أحمل الجنسية الليبية. وقبيلة الفواتير منتشرة في ليبيا والسودان بل وفي تونس أيضاً. يوجد حاليا في تونس وزير من الفواتير بل ويدعى محمد الفيتوري هو الآخر! (كان آنذاك وزيرَ الخارجية). وحين أسقطت حكومة جعفر نميري عني الجنسية السودانية وصرت بلا أوراق ثبوتية، منحتني الحكومة الليبية الجنسية وجواز سفر دبلوماسياً، فلماذا أتنكر لها؟".
وفي لقاء آخر سألته كيف يكتب قصائد في مدح رؤساء اتسموا بالدكتاتورية مثل معمر القذافي وصدام حسين الذي منحه جائزة مالية يسيل لها اللعاب، فلزم الصمت ثم تنهد وقال: "من شابه المتنبي فما ظلم. احسبهم سيف الدولة الحمداني أو كافور الإخشيدي".
تزوج محمد الفيتوري ثلاث مرات. كانت الأولى فتاة فلسطينية عرفها في القاهرة، ولم تدم الزيجة طويلاً لأنها ماتت محترقة. والزوجة الثانية سودانية، هي الممثلة التي أصبحت نجمة المسرح آسيا عبد الماجد ومنها أنجب ولدا (تاج الدين) وابنة (سولارا.. على اسم مسرحية شعرية له). والثالثة والأخيرة هي المغربية رجات أرماز التي تزوجها في الرباط سنة 1995 وعاشت معه عشرين عاما حتى وفاته. أنجبت ابنة سمّياها "أشرقت" وهو اسم بصيغة فعل. وأطلقا اسمها على دارتهما في ضاحية سيدي العابد المطلة على المحيط الأطلسي، جنوب الرباط. وهي الآن تدرس الفلسفة والحقوق في الولايات المتحدة الأميركية.
في عام 2005 الذي نشر فيه آخر دواوينه "عرياناً يرقص في الشمس"، أصيب محمد الفيتوري بجلطة في الدماغ تركت أثرها السلبي في صحته البدنية والذهنية. تم علاجه في باريس والرباط وشفي تقريباً، لكن الجلطة هاجمته من جديد فأصابته بشلل جزئي وبعدم القدرة على الكلام بوضوح.
وفي 2013 زرته في "فيلا أشرقت" في المغرب. كان المرض قد تملك منه ويعيش أيامه برعاية شاملة من زوجته السيدة رجات. تملك مني الحزن لأنه لم يبادلني الكلام وإن كان استقبلني بابتسامة. حاولت أن أستدرجه في الكلام وقرأت على مسامعه قصيدته عن بيروت "الزائر والأسئلة" ومطلعها "أبطأتَ، وهي وراء الباب تنتظرُ/ هل جئت تحيي الهوى أم جئتَ تعتذرُ؟". حاولت أن أحيي الذكريات وكلمته عن بيروت التي أحبها، عن الأصدقاء الذين أحبهم ومنهم الشاعر والموسيقي منصور رحباني، عن المقاهي والمطاعم التي أحبها، لكن من دون مشاركة تشفي الغليل.
وكان الشاعر المصري فاروق شوشة قد أعلن وفاة الفيتوري قبل أوانها نقلا عن خبر مغلوط سمعه في الرباط ورثاه بكلمة بليغة وتبعه شعراء وأدباء. لكن النفي أتى من زوجته. ولو كان محمد الفيتوري بكامل وعيه آنذاك لردّ على النعي الكاذب بأبيات قالها من قبل في ذكرى عبد الخالق محجوب: "لا تحفروا لي قبراً/ سأرقد في كل شبر من الأرض/ أرقد كالماء في جسد النيل/ أرقد كالشمس فوق حقول بلادي/ مثلي أنا ليس يسكن قبراً".