جُمانة منّاع: في إثر مادة سحرية

07 اغسطس 2019
ترصد الكاميرا رهاب المكان ورحابة الحياة (moma)
+ الخط -
ما يُميًز الفيلم الوثائقي، "في إثر مادة سحرية"، للمخرجة الفلسطينية جمانة منّاع، هو تلك الحساسية المرهفة إزاء الحياة واستمراريتها؛ سواءً في سرده لقصة أرض تحت الاحتلال، أو تصويره للبيوت فوقها، سواءً كانت الموسيقى مادته السحرية، أم غايته تقصّي الإرث الثقافي لمُتعدّد مكوّنات المجتمع على مدى الأرض الفلسطينية المحتلة، تبقى الحياة قيمةً ومظهراً، جوهر الفيلم والروح التي تدبّ فيه.
في الإطار العام، الفيلم استعادة لجُهدٍ في الأرشفة بذله روبرت لاخمان (1892-1939) وهو مستشرقُ مختصٌ بموسيقى الشعوب، ألماني (يهودي)، هاجر إلى فلسطين قبيل النكبة قرابةَ العقد، حيث عكف على جمع عيّنات موسيقية من مختلف الإثنيّات المُقيمة على أرض فلسطين. كلّل جهده ببرنامج إذاعي قدم فيه شرحاً علمياً، كما استقدم موسيقيين محليين أدوا وغنوا ألوانهم التراثية عبر الأثير.
في المضمون الشخصي الخاص، تنظر جمانة منّاع من خلال الكاميرا إلى نشأتها انطلاقا من بيت الأسرة في القدس، لتَسبُر موسيقياً من بعد ذلك الخارطة الاجتماعية الراهنة للأرض الفلسطينية المُحتلة. تُناظر جمانة أيضاً المُستشرق لاخمان، عبر قراءة النص المُحرر لبرنامجه الإذاعي واستعادة مادته السمعية بأداء فنانين معاصرين، لتبثّ في الموروث الحياة وتُخرجه من أواني الحفظ والدراسة.
قيمة البيت في الضمير الجمعي الفلسطيني، تجعل من فضائه الداخلي والخارجي مسرحاً رئيسياً لكاميرا ثابتة، هادئة ومُتأملة. باعتماد اللقطة البعيدة، تقاوم حال الضيق المساحي، التي تسِم العيش تحت الاحتلال نتيجة سياسات العزل السكاني، ثم من خلال السماح للأحداث اليومية العابرة باختراق اللقطة الساكنة، ترصد الكاميرا في آن كلّاً من رهاب المكان ورحابة الحياة التي تسكنه.
رمزياً، يحاكي المطبخ، حيث تصوّر معظم المشاهد، ماهيّة الموسيقى كحالة خيميائية. يتقاطع ذلك مع استنتاجات لاخمان حول تحدّر موروث العزف والغناء في المنطقة عن فلسفة عتيقة، ترى فيهما تجلّياتِ نظام كوني يُدبّر شؤون الطبيعة ومصائر الناس، مُجسّداً بذلك مؤسسةَ الاستشراق، لجهة تبنّيه نظرة ما قبل تاريخية تحكُم الشرق وتتحكم به، مقابل حداثة عقلانية علمية تُميّز غربَ عصر التنوير.
بيد أن جمانة، في مناظرتِها المستمرة للاخمان، تعبر بتلك الخيميائيَة من التاريخ إلى المستقبل. حين تزور الأسر التي ما زالت تزاول العزف والغناء على امتداد "البلاد" الفلسطينية لتُحييْ فيها وصلات موسيقية أمام الكاميرا، في المطبخ وأثناء غلي القهوة، في المكتب أو تحت خيمة بدوية، إنما هي تؤنسن اجتهادات لاخمان، جاعلةً من خيميائية ما قبل الحداثة مشروعَا ميتافيزيقيا لما بعدها.
سياسياً، يتناول الفيلم عبر سردية الموسيقى وجوه العزل والإقصاء المفروضة على مجاميع السكان في المنطقة وعلى مستويّات عدة. الفصل يبدأ بطبيعة الحال من عزل تعيشه جغرافيا الأرض الفلسطينية؛ فاستحالة جمع الموسيقيين في موقع تصوير واحد نتيجة الجدار العازل وجزر المستوطنات المُقحمة بين المدن والبلدات، حتّم على طاقم إنتاج الفيلم عبور الحواجز إلى حيث يُقيم المؤدون.
مستوى آخر من العزل يبدو داخل "المُجتمع الإسرائيلي"، ليس فقط إزاء عرب الداخل، وإنما بين "اليهود" أنفسهم. ففي مسعى "بناء الأمة" في أعقاب "إعلان دولة إسرائيل"، وبحجة صهر مهاجرين أتوا من أصقاع شتى، جرى طمس وتهميش مُمأسس لليهود الشرقيين والسامرييّن، إضافة إلى المغاربة واليمنيين، لصالح القادمين من أوروبا، لتبدو الدولة العبرية بذلك عبارة عن كولونياليّة داخل كولونياليّة.
كخطوة أولى، وفي سبيل تشكيل هوية متجانسة لمشروع دولة ولدت من رحم حقبة استعمارية، كان لا بدّ من نفي أي هويّة عريضة وجامعة للسكان الأصليين. يصبّ في خدمة ذلك تفتيتهم إلى وِحدات خزفية لكلّ منها ثقافة خام وجزيئية، مما يُسهّل استيعاب فسيفساء الوافدين الجدد. ثم أتت الأشكْنزة (من أشكناز) خطوةً تالية، لتبني مؤسسات "المجتمع الإسرائيلي" طبقيّاً، هرميّا وعمودياً.
في سياق ذلك، شكّل جُهد لاخمان الاستشراقي مستوى آخرَ موازياً للعزل، قام على حُرمة تحديث "تراثات" المنطقة عن طريق التلاقح مع الموسيقى الغربية، تحت ذريعة الحفاظ على نقائها وعذريّتها. اصطدمت عقيدته تلك بآراء معاصريه المستنيرين والمُحدّثين من أبناء البلد، الذين نادوا بضرورة انفتاح التراث على المستقبل وقدرته على استيعاب الحداثة، أدّى الصدام في حينه إلى سجالات حادة.
تُعد مسألة حُرمة التلاقح، تحت طائلة الاتهام بالاستيلاء الثقافي جدلية لا تزال قائمة إلى اليوم. المدافعون عنها هم، من جهة رموز مؤسسة الاستشراق بجذورها الكولونيالية وامتداداتها اليهو- مسيحية المعاصرة، ومن جهة أخرى المحلّيون التقليديّون، الذين يؤمنون بأن صيانة التراث والحفاظ عليه طاهراً لا تكون إلا بالوقاية من الحداثة وجعل الماضي والأصول التاريخية وجهته الأولى والنهائية.
الحَيد بالموروث الفني عن الاستيلاء الثقافي يصبّ في النهاية، بوعي أو من دونه، في صالح "الأَخرنة"؛ أي تكريس الحدود الفاصلة بين الآخر والـ نحن. روبرت لاخمان أرادَ لمجموعته من "اللُقى"الموسيقية التي جمعها من على الجغرافيا الفلسطينية أن تكتفي بالتعبير عن التاريخ وتترك المستقبل للدولة اليهودية الناشئة. فيما يخاف البدوي اليوم على ربابته والقروي على آلته اليرغول من غزو العولمة.

من بين كل مستويات الفصل تلك، السياسية والاجتماعية والثقافية، تحاول جمانة رسم خارطة وجدانية للمكان الذي عرفته ونشأت فيه. في ثبات الكاميرا وأخْذ العدسة مسافةً من ضيق المساحة، هي تراقب وتتأمل كيف تتّصل مستويات الفصل وتتفاعل بحتميّة تفرضها حميميّة الحياة. بحضورها الشخصي في فيلمها، تُنتِج أرشيفاً، مقابلاً وبديلاً. بالأنسنة، تقاوم جمانة منهجيّات العَزل.
عُرض فيلم "في إثر مادة سحرية"، الذي كتبته وأخرجته جمانة منّاع، هذا العام في مهرجان الفيّنالة في العاصمة النمساوية فيينّا كما وقد سبق عرضه ضمن فعاليّات دورة سابقة من مهرجان البرليناله في العاصمة الألمانية برلين. حالياً وفي صالة الغروبيوس ببرلين، تُقدّم منّاع فيلمها الأخير "حب برّي" الذي سبق أيضاً أن استضافه مهرجان البرليناله لدورة عام 2018.
المساهمون