ظهر مع فن الشارع/الغرافيتي، نوع جديد من جامعي الفنّ؛ هواة ومخرّبون وذوّاقة، يبحثون في الأماكن العامة عما هو متوافر للجميع، ومرسوم بالأصل بصورة غير قانونيّة، ليقوموا بقصه وبيعه لاحقاً. بالطبع، بانكسي هو أشهر ضحايا هذه العمليات الممنهجة أحياناً، والعشوائيّة في الأحيان الأخرى.
أخيراً، قام مجهولون بسرقة باب مسرح الباتاكلان في باريس، الذي رسم عليه بانكسي تخليداً لذكرى ضحايا العمل الإرهابي عام 2015. إلا أن أشهر وأكبر هذه الأعمال، والتي لم تُبع حتى الآن، هي تلك التي يتتبع المخرج الإيطاليّ، ماركو بروسيربي، في شريطه التسجيليّ "الرجل الذي سرق بانكسي" (2018)، وقائع نقلها إلى كوبنهاغن ومحاولة بيعها، بمساعدة وليد الوحش، سائق التاكسي وهاوي كمال الأجسام، الذي قام عام 2007 بالإشراف على قص، أو سلخ، طبقة من جدار الفصل العنصري في الضفة الغربيّة، الذي يحوي "لوحة" بانكسي "الجندي والحمار"، وذلك بالتعاون مع الوكيل الفنيّ ورجل الأعمال، مايك قنواتي.
نتلمس في الفيلم علاقة وطيدة بين بانكسي وبين سكان مدينة بيت لحم، كباراً وصغاراً؛ إذ خلقت أعماله سوقاً للفن في المدينة، التي تُنظم فيها مهرجانات وفعاليات ثقافية مختلفة، ويسافر الكثير من هواة الفن المعاصر إلى المعارض المحليّة لشراء قطع فنيّة لا توجد إلا في بيت لحم، وكأن الجدار وما حوله قبلة للفنانين في حال أرادوا الشهرة أو المشاركة في "النضال"، لتبدو المدينة حيويّة ومتغيرة، لكن بعد أن نتعرف إلى وليد الوحش، يخبرنا أنه لا يحب بانكسي، وأن الجدار ليس "كانفاس كبيرة"، كما يقول إيغي بوب، الذي يلعب دور المعلق على الفيلم، بل هو جدار عنصري، لن يتزحزح، وثمن كل الأعمال الفنيّة المرسومة عليه لا يوازي إلا جزءاً من تكلفة صيانته سنوياً.
يطرح سكان المنطقة في الفيلم عدداً من التساؤلات المحقة: لم الرسومات على هذا الجانب من الجدار؟ نحن نعلم ما يحدث في فلسطين، ونعلم معنى الاحتلال، لم لا يقوم الفنانون بالرسم على الجانب الآخر؟ وكأن هناك سخرية عميقة من كل هذا الاستعراض الفني لطالما الجدار قائم. فكيفما لُوّن وزُيّن وزُخرف، هو في النهاية جدار عنصري يفصل الناس عن أهلهم ويجعلهم أعداء محتملين. هو جدار يصفه العاملون مع وليد الوحش أثناء قصّه لأخذ عمل بانكسي بأنه "مصنوع جيداً"، وليس من السهل العبث به، خصوصاً أن الجزء من الجدار الذي يحوي رسم بانكسي احتاج ورشة بأكملها ومعدات ثقيلة لقصه، ثم نقله بحراً إلى كوبنهاغن.
بالعودة إلى "لوحة" بانكسي، يخبرنا الفيلم أن الكثير من سكان المنطقة وجدوا محتواها مهيناً، وكأن بانكسي يقارن الفلسطيني بالحمار الذي يطلب الجندي هويته، وهذا التفسير المنطقي الذي يخطر في بال أي عابر بقرب الجدار. لكن يتضح لنا أن ما تركه بانكسي استعادة وتحوير للوحة للفنان النيوزيلندي هوركو جونز، بعنوان "الرجل والحمار"، التي أنجزت في بدايات القرن العشرين، والتي يحاول الفيلم تفسير مقصد بانكسي من استعادتها، بوصفها دعوة للجنود الإسرائيليين للانشقاق أو مساعدة الجرحى كما كان يفعل الجندي في اللوحة الأصليّة.
هذه العلاقة المجازية والميتا-فنيّة تحتاج إلى مختص في تاريخ الفن في بداية القرن العشرين لشرحها، وتجاوز اللبس الذي تخلقه، خصوصاً أن اللوحة الأصلية تصوّر أشخاصاً حقيقيين وأحداثاً حقيقية. بالتالي، إما بانكسي لا يعرف ثقافة المنطقة، أو أنه يراهن على التاريخ والنقاد لشرح معناها، أثناء ذلك يُعرّض نفسه للسباب والإهانة من سكان المنطقة.
تتكرر آراء النقاد في الفيلم حول ملكية فن الشارع وقانونيته، ويرددون التفسيرات المختلفة عن شرعيّة نزعه من سياقه الأصلي، سواء لحفظ الأعمال من التلاشي أو للاتجار بها. كذلك نسمع أراء النقاد عن تناقض المتحف كمساحة عرض برجوازيّة مع الشارع كمساحة علنيّة للجميع، وهو الجدل التقليديّ الذي ما زال فن الشارع يثيره منذ نشأته. لكن، في النهاية، وكما نشاهد، ينتصر الجامعون وأصحاب صالات العرض، ويحصلون على ما يريدون، إذ يأخذنا الفيلم، لاحقاً، إلى أمثلة أخرى من أعمال الشارع التي تم "جمعها"، لنشاهد مجموعة من المقنعين الذين يقطعون جزءاً من جدار ما في مدينة أوروبّية مجهولة ليباع ما عليه لاحقاً.
تُمكن كتابة الكثير عن عملية "الجمع" و الاقتناص الفيتيشي لفن الشارع ونزعه من سياقه، وتأثير ذلك على إطار العمل الفني وعلاقته مع السياق العلني الذي يظهر فيه. لكن هناك سؤال يتكرر على لسان وليد الوحش: لماذا لا يزال هناك جدار؟ ما الفائدة من الحراك الفنيّ والجدل النقديّ والصور والمزادات، والسلطة الفلسطينية التي تحمي أعمال بانكسي وتراه قادراً على التعبير عن القضية الفلسطينيّة في حال كان الجدار موجوداً ولا يتزحزح. وهنا يعرّفنا الفيلم، بصورة أكبر، على مايك قنواتي، الذي أيضاً يمتلك موقفاً نقدياً من بانكسي، ويطلب منه أن يترك لهم أعمالاً لبيعها من أجل مساعدة الناس في بيت لحم وفي مخيمات اللاجئين. يؤكد قنواتي أنه في حال رفض بانكسي، فسيستمر في بيع أعماله لمساعدة الناس، حسب ادّعائه.
لم يشتر أحد "جدار بانكسي" في أول مزاد عرض فيه في نيويورك، بل ولم يصل المزايدون إلى ثمن العرض الأوليّ، 700 ألف دولار، ولم يحصل وليد على أي نقود، ولا أي واحد من سكان بيت لحم، وبقي الجدار في مكانه، وهنا تتراجع الأهميّة النقديّة والفنيّة لأعمال بانكسي، بل جدوى الفنّ بأكمله في مواجهة السطوة السياسية الاستعماريّة.
اقــرأ أيضاً
نتلمس في الفيلم علاقة وطيدة بين بانكسي وبين سكان مدينة بيت لحم، كباراً وصغاراً؛ إذ خلقت أعماله سوقاً للفن في المدينة، التي تُنظم فيها مهرجانات وفعاليات ثقافية مختلفة، ويسافر الكثير من هواة الفن المعاصر إلى المعارض المحليّة لشراء قطع فنيّة لا توجد إلا في بيت لحم، وكأن الجدار وما حوله قبلة للفنانين في حال أرادوا الشهرة أو المشاركة في "النضال"، لتبدو المدينة حيويّة ومتغيرة، لكن بعد أن نتعرف إلى وليد الوحش، يخبرنا أنه لا يحب بانكسي، وأن الجدار ليس "كانفاس كبيرة"، كما يقول إيغي بوب، الذي يلعب دور المعلق على الفيلم، بل هو جدار عنصري، لن يتزحزح، وثمن كل الأعمال الفنيّة المرسومة عليه لا يوازي إلا جزءاً من تكلفة صيانته سنوياً.
يطرح سكان المنطقة في الفيلم عدداً من التساؤلات المحقة: لم الرسومات على هذا الجانب من الجدار؟ نحن نعلم ما يحدث في فلسطين، ونعلم معنى الاحتلال، لم لا يقوم الفنانون بالرسم على الجانب الآخر؟ وكأن هناك سخرية عميقة من كل هذا الاستعراض الفني لطالما الجدار قائم. فكيفما لُوّن وزُيّن وزُخرف، هو في النهاية جدار عنصري يفصل الناس عن أهلهم ويجعلهم أعداء محتملين. هو جدار يصفه العاملون مع وليد الوحش أثناء قصّه لأخذ عمل بانكسي بأنه "مصنوع جيداً"، وليس من السهل العبث به، خصوصاً أن الجزء من الجدار الذي يحوي رسم بانكسي احتاج ورشة بأكملها ومعدات ثقيلة لقصه، ثم نقله بحراً إلى كوبنهاغن.
بالعودة إلى "لوحة" بانكسي، يخبرنا الفيلم أن الكثير من سكان المنطقة وجدوا محتواها مهيناً، وكأن بانكسي يقارن الفلسطيني بالحمار الذي يطلب الجندي هويته، وهذا التفسير المنطقي الذي يخطر في بال أي عابر بقرب الجدار. لكن يتضح لنا أن ما تركه بانكسي استعادة وتحوير للوحة للفنان النيوزيلندي هوركو جونز، بعنوان "الرجل والحمار"، التي أنجزت في بدايات القرن العشرين، والتي يحاول الفيلم تفسير مقصد بانكسي من استعادتها، بوصفها دعوة للجنود الإسرائيليين للانشقاق أو مساعدة الجرحى كما كان يفعل الجندي في اللوحة الأصليّة.
هذه العلاقة المجازية والميتا-فنيّة تحتاج إلى مختص في تاريخ الفن في بداية القرن العشرين لشرحها، وتجاوز اللبس الذي تخلقه، خصوصاً أن اللوحة الأصلية تصوّر أشخاصاً حقيقيين وأحداثاً حقيقية. بالتالي، إما بانكسي لا يعرف ثقافة المنطقة، أو أنه يراهن على التاريخ والنقاد لشرح معناها، أثناء ذلك يُعرّض نفسه للسباب والإهانة من سكان المنطقة.
تتكرر آراء النقاد في الفيلم حول ملكية فن الشارع وقانونيته، ويرددون التفسيرات المختلفة عن شرعيّة نزعه من سياقه الأصلي، سواء لحفظ الأعمال من التلاشي أو للاتجار بها. كذلك نسمع أراء النقاد عن تناقض المتحف كمساحة عرض برجوازيّة مع الشارع كمساحة علنيّة للجميع، وهو الجدل التقليديّ الذي ما زال فن الشارع يثيره منذ نشأته. لكن، في النهاية، وكما نشاهد، ينتصر الجامعون وأصحاب صالات العرض، ويحصلون على ما يريدون، إذ يأخذنا الفيلم، لاحقاً، إلى أمثلة أخرى من أعمال الشارع التي تم "جمعها"، لنشاهد مجموعة من المقنعين الذين يقطعون جزءاً من جدار ما في مدينة أوروبّية مجهولة ليباع ما عليه لاحقاً.
تُمكن كتابة الكثير عن عملية "الجمع" و الاقتناص الفيتيشي لفن الشارع ونزعه من سياقه، وتأثير ذلك على إطار العمل الفني وعلاقته مع السياق العلني الذي يظهر فيه. لكن هناك سؤال يتكرر على لسان وليد الوحش: لماذا لا يزال هناك جدار؟ ما الفائدة من الحراك الفنيّ والجدل النقديّ والصور والمزادات، والسلطة الفلسطينية التي تحمي أعمال بانكسي وتراه قادراً على التعبير عن القضية الفلسطينيّة في حال كان الجدار موجوداً ولا يتزحزح. وهنا يعرّفنا الفيلم، بصورة أكبر، على مايك قنواتي، الذي أيضاً يمتلك موقفاً نقدياً من بانكسي، ويطلب منه أن يترك لهم أعمالاً لبيعها من أجل مساعدة الناس في بيت لحم وفي مخيمات اللاجئين. يؤكد قنواتي أنه في حال رفض بانكسي، فسيستمر في بيع أعماله لمساعدة الناس، حسب ادّعائه.
لم يشتر أحد "جدار بانكسي" في أول مزاد عرض فيه في نيويورك، بل ولم يصل المزايدون إلى ثمن العرض الأوليّ، 700 ألف دولار، ولم يحصل وليد على أي نقود، ولا أي واحد من سكان بيت لحم، وبقي الجدار في مكانه، وهنا تتراجع الأهميّة النقديّة والفنيّة لأعمال بانكسي، بل جدوى الفنّ بأكمله في مواجهة السطوة السياسية الاستعماريّة.
التي تتمثل بجدار هائل، ما إن تتلاشى أعمال الفنانين عنه سواء بسب التخريب أو البيع، حتى يبقى في وجه سكان المنطقة، مُحدقاً بهم ومهدداً إياهم. ذات الأمر ينطبق علينا، حين ننتهي من مشاهدة الفيلم. ما الذي سيتغير؟ نعم، سنتعلم أكثر عن الإشكاليات النقدية والقانونية لفن الشارع، ومساوئ سوق الفن، وثورية بانكسي، لكن، الجدار سيبقى موجوداً، ووليد الوحش ما زال يصلح التاكسي الخاص به كل يوم، من دون أي ربح ماديّ أو سياسي من كل أعمال بانكسي.