البابا فرنسيس وكاميرا فاندرز: غياب السينما

25 يونيو 2018
البابا وفيم فاندرز (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
ينطلق "البابا فرنسيس: رجل كلمة" (2018)، الوثائقي الجديد للسينمائيّ الألماني فيم فاندرز (1945) ـ المُشارك في برنامج "عروض خاصّة"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي ـ من محاولة بصرية للبحث في علاقة الحبر الأعظم الحالي، الأرجنتيني خورخي ماريو برغوغليو (1936) بالقديس الإيطالي فرنسيس الأسيزي (1182 ـ 1226). فالبابا الحالي يختار اسم فرنسيس تيمّنًا بالقديس يوم انتخابه رئيسًا للكنيسة الكاثوليكية في 13 مارس/ آذار 2013، ليُصبح البابا الـ266، "كدليل على الفقر والأمل والخضوع للّه". 

لكن تلك المحاولة تبقى عصيّة على ابتكار مشهدٍ سينمائي يرتكز على الوثائقيّ كي يروي شيئًا من تفاصيل تلك العلاقة، ما يقسم العمل إلى نمطين بصريين يختلف أحدهما عن الآخر تمامًا: الأول تسجيلي بحت من دون أي بُعدٍ سينمائيّ، والثاني متخيّل يمتلك بعض مفردات القول السينمائيّ.

والعلاقة بين الشخصيتين (البابا والقديس) متأصّلة في التزام الأرجنتيني سلوك الإيطاليّ وثقافته وعيشه اليومي، خصوصًا بعض أفكاره التي يعتبرها كثيرون نوعًا من انقلابٍ أو تحرّر أو "ثورة" داخل المؤسّسة الدينية المسيحية، بالإضافة إلى سعي الإيطالي، يومها، إلى "الحوار بين الأديان"، وهذا ـ تحديدًا ـ دافعٌ للبابا يوحنا بولس الثاني، البولندي كارول يوزف فوجتيلا (1920 ـ 2005)، إلى جعل "أسيز"، بلدة القديس، مكان الاحتفال بـ"اليوم العالمي للصلاة" عام 1986، وهو احتفالٌ سنوي، يُعرف أيضًا بـ"لقاءات أسيز".

هذا ليس عابرًا. العمل المُنتَج من "الفاتيكان" ينتقل إلى القرية الإيطالية وقديسها مرارًا، للتأكيد الدائم على قوّة تأثّر الأرجنتيني بهما (القرية والقديس)، أثناء جولاته الدولية التي يطرح خلالها مواقف مُثيرة للجدل والنقاش والانتباه والترحيب (أو الامتعاض وعدم القبول). إعادة تخيّل البلدة زمن القديس مصنوع بأسلوب الأفلام الصامتة، المائل إلى شيء من بهتان الصورة مع شريط صوتي يروي مقتطفات من سيرة القديس وبلدته، وهذا كلّه لتبيان بعض معالم تلك الفترة، وملامح تلك الشخصية، ومناخ تلك البيئة. والمتخيّل أفضل جانب في الفيلم، الذي تبلغ إيراداته الأميركية ـ في الأيام الـ3 الأولى لبدء عروضه التجارية (18 ـ 20 مايو/ أيار 2018) في 346 صالة أميركية، 507 آلاف و870 دولارا أميركيا، محتلاً بذلك المرتبة الـ16 في لائحة "شبّاك التذاكر"، علمًا أن إيراداته الدولية لغاية الآن تساوي مليونين و323 ألفًا و465 دولارا أميركيا.

وإذْ يبدو المتخيّل أفضل من التوثيقيّ/ التسجيلي، فإنّ "البابا فرنسيس: رجل كلمة" يجذب مؤمنين ومهتمّين بالشخصية، رغم أنه لن يُقدِّم جديدًا عن رجلٍ يجتهد في إعادة الكنيسة إلى "صراطها المستقيم"، محاولاّ إنقاذها من فضائح وفسادٍ يمتدّان في اشتغالاتٍ مختلفة لها، وساعيًا إلى تجديد مفاهيمها وسلوكها المتنوّع، وعاملاً على "تثويرها" من الداخل. فـ"الأفكار الثورية" التي يُطلقها البابا فرنسيس ويعمل على تطبيقها (الإصلاح السياسي في الدول، العلاقات الدولية، المثلية الجنسية، الإجهاض، الإلحاد، العدالة الاجتماعية، البيئة، المناخ... إلخ؛ من دون تناسي متابعته الدقيقة لملفّ الفضائح الجنسية في أبرشيات كثيرة منتشرة في العالم) معروفة ومتداولة وخاضعة لتحليل ونقاش، لكن عمل فيم فاندرز مكتفٍ بتسجيلها، عبر كلامٍ مباشر يقوله البابا أمام الكاميرا أو في جولاته المختلفة التي يتابعها ملايين المؤمنين وغير المؤمنين أيضًا في العالم.

قولٌ كهذا يُشير إلى أن السينما في العمل منعدمة، باستثناء الجانب المتخيّل، وهو ـ رغم هذا ـ غير باهرٍ أو مختلف. يُشير أيضًا إلى أن الشخصية نفسها أقوى وأعمق وأجمل وأهمّ من العمل، الذي يظهر كـ"بيان" ترويجي أو كـ"بروباغاندا" دعائية "تؤرِّخ اللحظة" ـ بحسب تعبير الكاتب الفرنسي ألبير كامو (1913 ـ 1960) بخصوص الصحافة ـ التي يصنعها البابا فرنسيس، ذو الشخصية الطريفة والمحبَّبة والحنونة، والجاذبة بنبرة الصوت وحركة اليدين والعينين، وبابتسامة متوافقة وقدرة على الاستماع والتنبّه.

الالتفاف الجماهيري حول الفيلم متطابقٌ والالتفاف الجماهيري حول شخصية كنسية ذات حضور مؤثّر وانفعالي في وجدان ملايين المؤمنين؛ وذات جاذبية في تفعيل العلاقات مع غير التابعين للكنيسة الكاثوليكية. الحوار بين الأديان مستمرّ، وزيارة البابا الأرجنتيني للأزهر (مصر) والمسجد الأقصى (فلسطين المحتلّة) يُقابلها لقاء مع رجال دين يهود، كما مع رجال أديان غير سماوية. بالإضافة إلى لقاءاته السياسية الدولية مع رؤساء دول، وخطاباته في مبنى الأمم المتحدة والكونغرس الأميركي، وغيرهما. هذه صُوَر متداولة بكثرة، ومعروضة على شاشات التلفزة مرارًا، فإذا بها تحتل المساحة الأوسع في عملٍ يُفترض بصانعه أن يجعله أكثر سينمائيًا وأجمل بصريًا، بدلاً من الاكتفاء بتسجيلٍ غير مختلف عن أشرطة دعائية تُنتجها وزارات السياحة أو "الإرشاد القومي".

رغم هذا كلّه، تبقى شخصية البابا فرنسيس جاذبة ومثيرة لمزيدٍ من المتابعة والتواصل، خصوصًا أنه مستمرٌّ في خوض معاركه بهدوء ورويّة، في عالمٍ مُصاب بتشنّجات عنيفة وقاتلة.
المساهمون