ينتشر بين بعض المتظاهرين في لبنان استخدام الأقنعة المُستمدة من عالم السينما والتلفزيون، وهي ثلاثة: "قناع دالي" الذي ظهر في مسلسل Le Casa de Papel، وقناع "V" من فيلم V for Vendetta، إلى جاب قناع أو مكياج "جوكر". هذه الأشكال من "التنكر" نتاج التماهي الجمالي والسياسي مع الحكايات المتخيّلة عن النضال والاحتجاج ضد السلطة الفاسدة ورموزها. هذه الأقنعة تعكس الرغبة بإسقاط النظام بأكمله واسترجاع الأموال المنهوبة والمخزّنة في المصارف، وعادة ما يستخدم القناع لممارسة حرية أكبر، ولإخفاء الهويّة، لتحاك الحكايات حول مرتديه؛ فالقناع يمثّل فكرة أو مفهوماً يتجاوز الفرد، هو أكبر من شخص واحد، ويمكن لأي أحد ارتدائه والتماهي مع الحكاية التي يختزلها.
إخفاء الوجه في احتجاجات الربيع العربيّ كان خياراً يعكس الخوف من أن تُعرف هويّة المُتظاهر، كما في سورية ومصر، فالخوف على الحياة من أنظمة الرقابة وكتابة التقارير، دفع المتظاهرين إلى نفي ملامحهم وتحييدها، وترك من يُشاهد في شكّ: من هذا المقنع؟ هل نعرفه؟ هل ننضم إليه أم نتجاهله؟ فظهور الفرد بوجهه في مساحة الاحتجاج خطير، حتى ولو كان مارّاً؛ إذ إن هناك رعباً من وجود جهاز رقابة سلطويّ مُختص برصد أوجه المتظاهرين وتهديد حياتهم، وهذا ما نتلمّسه حين نسمع عن الكثيرين ممن اعتقلوا وغُيبوا لأن وجوههم ظهرت في صورة ما، أو فيديو ما.
لكن، ما تقدمه لنا الانتفاضة في لبنان مختلف عما سبق، القناع في مظاهرة لبنان لا يخفي وجه المتظاهر، بل يسخر من القناع نفسه، فالمتظاهرون يهتفون ويجابهون "الزعران" والجيش بوجوههم المكشوفة، يتحدثون بأسمائهم، لا خوف أو تهديد، فـ"الجميع" مُتفقون على الفاسد والمجرم، يشيرون إليه، ويسمونه ويشتمونه، يمزقون صوره بأيديهم ويحتلون بأجسادهم الساحات، في حين يختفي الفاسد وراء الشاشات.
هذا الظهور بالاسم والوجه الصريح نراه، مثلاً، في حملة "أنا ممول الثورة" التي شارك فيها العشرات ردّاً على الاتهامات بأن المتظاهرين ممولون من الخارج، وليسوا إلا بيادق في أيدي "السفارات"؛ إذ ظهر كل ناشط أمام هاتفه النقال، يردّد ساخراً عبارة "أنا ممول الثورة"، في رد سريع على الادعاءات المناهضة للحراك، وللتأكيد على أن من يتظاهر معروف ويمكن البحث عنه. السياسة نفسها اتبعها المتظاهرون تجاه كل من يحاول سرقة حراكهم، يسمّونه باسمه، ويشيرون إلى وجهه، ويدعونه إلى الصمت إن لم يكن معهم.
لا أحد يختبئ أو يختفي، الجميع يجابه بوجهه من داخل ساحات بلاده كل من يحاول تفريق الاحتجاج، هذه المواجهة لم يستطع الكثيرون في سورية القيام بها، حيث لا مساحات للاحتجاج داخل العاصمة، إذ اضطر كثيرون في بداية الثورة عام 2011 إلى التقنّع وإخفاء وجوههم وأسمائهم، خوفاً من أي عين يمكن أن ترصدهم وتساهم بموتهم أو اعتقالهم، لكن الانتفاضة في لبنان أعادت للكثيرين الأمل، وأحيت الرغبة باستمرار الثورة.
اقــرأ أيضاً
الممارسات المختلفة في المظاهرات في لبنان تفوق تلك التي يتيحها القناع، فالكل يتعرف إلى الكل ويحفظ وجهه، لتتلاشى قيمة القناع، ويصبح أشبه بديكور؛ فالدلالات التي يحويها كل واحد من هذه الأقنعة والحكايات الرمزيّة التي يختزلها تتلاشى، ليصبح القناع أشبه بدمية أطفال، أو شكلاً من أشكال اللعب الذي شهدته المظاهرات، كالرقص والغناء، وغيرها من المعالم الكرنفاليّة؛ إذ الكل ظاهر ومرئيّ، ويمثل نفسه، في نفي لمفاهيم "التمثيل البرلماني"، فلا أحد يعير صوته لأحد.
يتلاشى الخوف حين نعرف الوجوه، سواء تلك الثائرة أو تلك الفاسدة والقاتلة. مفهوم "سقوط القناع" الرومانسي يتجلى في الساحات، وهناك فرح وغبطة لا يمكن إنكارهما حين يشاهد الواحد منا من يعرفه - أو يظن أنه يعرفه - في الساحة يتظاهر ويقطع الطريق، لكن رعشة القدرة على تمييز ملامح من نعرفهم بين الجموع تحيلنا إلى حزن عميق ممزوج بالحماسة التي تعترينا، نحن الذين أخفينا وجوهنا وتقنعنا وكتبنا وتحدثنا بأسماء وهميّة خوفاً من بطش الأنظمة الديكتاتوريّة. وجوه اللبنانيين تحيي فينا رغبة باحتلال ساحات عواصمنا بوجوهنا وأسمائنا، بل ومشاركة اللبنانيين والانضمام إلى ساحاتهم.
وجه كل من يظهر في الساحة دعوة لنا، نحن المختفين والمقموعين، لنظهر بوجوهنا ونتحدى الخوف، ذاك الذي يمتد في الأسرة بأكملها، إذ اعتدنا في الأنظمة القمعية على الخوف من ظهور وجه واحد في المظاهرة، لأن ذلك يعني اختفاء الأسرة بأكملها إن تم التعرف عليه من قبل "الأمن". كنا وما زلنا نخاف من وجوهنا، بعكس كل متظاهر في ساحات لبنان، يهتف ويقاتل بمرئيّة شديدة، فلا وجه يشبه الآخر، كل واحد يمتلك حكاية تفوق كل ما يحويه القناع من رموز.
إخفاء الوجه في احتجاجات الربيع العربيّ كان خياراً يعكس الخوف من أن تُعرف هويّة المُتظاهر، كما في سورية ومصر، فالخوف على الحياة من أنظمة الرقابة وكتابة التقارير، دفع المتظاهرين إلى نفي ملامحهم وتحييدها، وترك من يُشاهد في شكّ: من هذا المقنع؟ هل نعرفه؟ هل ننضم إليه أم نتجاهله؟ فظهور الفرد بوجهه في مساحة الاحتجاج خطير، حتى ولو كان مارّاً؛ إذ إن هناك رعباً من وجود جهاز رقابة سلطويّ مُختص برصد أوجه المتظاهرين وتهديد حياتهم، وهذا ما نتلمّسه حين نسمع عن الكثيرين ممن اعتقلوا وغُيبوا لأن وجوههم ظهرت في صورة ما، أو فيديو ما.
لكن، ما تقدمه لنا الانتفاضة في لبنان مختلف عما سبق، القناع في مظاهرة لبنان لا يخفي وجه المتظاهر، بل يسخر من القناع نفسه، فالمتظاهرون يهتفون ويجابهون "الزعران" والجيش بوجوههم المكشوفة، يتحدثون بأسمائهم، لا خوف أو تهديد، فـ"الجميع" مُتفقون على الفاسد والمجرم، يشيرون إليه، ويسمونه ويشتمونه، يمزقون صوره بأيديهم ويحتلون بأجسادهم الساحات، في حين يختفي الفاسد وراء الشاشات.
هذا الظهور بالاسم والوجه الصريح نراه، مثلاً، في حملة "أنا ممول الثورة" التي شارك فيها العشرات ردّاً على الاتهامات بأن المتظاهرين ممولون من الخارج، وليسوا إلا بيادق في أيدي "السفارات"؛ إذ ظهر كل ناشط أمام هاتفه النقال، يردّد ساخراً عبارة "أنا ممول الثورة"، في رد سريع على الادعاءات المناهضة للحراك، وللتأكيد على أن من يتظاهر معروف ويمكن البحث عنه. السياسة نفسها اتبعها المتظاهرون تجاه كل من يحاول سرقة حراكهم، يسمّونه باسمه، ويشيرون إلى وجهه، ويدعونه إلى الصمت إن لم يكن معهم.
لا أحد يختبئ أو يختفي، الجميع يجابه بوجهه من داخل ساحات بلاده كل من يحاول تفريق الاحتجاج، هذه المواجهة لم يستطع الكثيرون في سورية القيام بها، حيث لا مساحات للاحتجاج داخل العاصمة، إذ اضطر كثيرون في بداية الثورة عام 2011 إلى التقنّع وإخفاء وجوههم وأسمائهم، خوفاً من أي عين يمكن أن ترصدهم وتساهم بموتهم أو اعتقالهم، لكن الانتفاضة في لبنان أعادت للكثيرين الأمل، وأحيت الرغبة باستمرار الثورة.
هذا الظهور الماديّ ينسحب على الأقليات الجندرية التي شاركت في المظاهرات، وهتفت بأسمائها وتنوعاتها ورفعت شعاراتها وأعلامها من دون خوف، هي لم تُدعَ إلى الظهور بوصفها فئة "خارجيّة"، بل كانت جزءاً من الحراك، ومارست حقها بالظهور الذي يشمل "الجميع" في الساحة ممن عانوا القمع والتهميش والنهب، فلا استثناء على أساس الدور الاجتماعيّ، ولا حاجة للتنكّر.
ظهور الوجه أتاح التفوّق على التقسيمات الطائفية، الكل يحدق في وجه الكل ويهتف باسمه واسم مدينته، وكأن مساحة التظاهُر فضاء للمساواة، الجميع فيها إخوة ضد الطبقة السياسيّة، فما يجمع المتظاهرين هو أسماؤهم والرغبة بالتنظيم والاستمرار في احتلال الساحات، وهنا تكمن السخرية من القناع: كل وجه يحكي معاناة من النظام الطائفي، كل وجه يظهر في الساحة ينفي التقسيمات السياسيّة والثقافيّة والطائفية، ويوحّد صوته مع الجميع الذين يهتفون "كلّن يعني كلّن". الممارسات المختلفة في المظاهرات في لبنان تفوق تلك التي يتيحها القناع، فالكل يتعرف إلى الكل ويحفظ وجهه، لتتلاشى قيمة القناع، ويصبح أشبه بديكور؛ فالدلالات التي يحويها كل واحد من هذه الأقنعة والحكايات الرمزيّة التي يختزلها تتلاشى، ليصبح القناع أشبه بدمية أطفال، أو شكلاً من أشكال اللعب الذي شهدته المظاهرات، كالرقص والغناء، وغيرها من المعالم الكرنفاليّة؛ إذ الكل ظاهر ومرئيّ، ويمثل نفسه، في نفي لمفاهيم "التمثيل البرلماني"، فلا أحد يعير صوته لأحد.
يتلاشى الخوف حين نعرف الوجوه، سواء تلك الثائرة أو تلك الفاسدة والقاتلة. مفهوم "سقوط القناع" الرومانسي يتجلى في الساحات، وهناك فرح وغبطة لا يمكن إنكارهما حين يشاهد الواحد منا من يعرفه - أو يظن أنه يعرفه - في الساحة يتظاهر ويقطع الطريق، لكن رعشة القدرة على تمييز ملامح من نعرفهم بين الجموع تحيلنا إلى حزن عميق ممزوج بالحماسة التي تعترينا، نحن الذين أخفينا وجوهنا وتقنعنا وكتبنا وتحدثنا بأسماء وهميّة خوفاً من بطش الأنظمة الديكتاتوريّة. وجوه اللبنانيين تحيي فينا رغبة باحتلال ساحات عواصمنا بوجوهنا وأسمائنا، بل ومشاركة اللبنانيين والانضمام إلى ساحاتهم.
وجه كل من يظهر في الساحة دعوة لنا، نحن المختفين والمقموعين، لنظهر بوجوهنا ونتحدى الخوف، ذاك الذي يمتد في الأسرة بأكملها، إذ اعتدنا في الأنظمة القمعية على الخوف من ظهور وجه واحد في المظاهرة، لأن ذلك يعني اختفاء الأسرة بأكملها إن تم التعرف عليه من قبل "الأمن". كنا وما زلنا نخاف من وجوهنا، بعكس كل متظاهر في ساحات لبنان، يهتف ويقاتل بمرئيّة شديدة، فلا وجه يشبه الآخر، كل واحد يمتلك حكاية تفوق كل ما يحويه القناع من رموز.