نيروز عُمان... غناءٌ يتوهج عند شُرفةِ البحر

17 يناير 2016
"النيروز العُماني" له علاقة مباشرة بالبحر (مروان نعماني/فرانس برس)
+ الخط -

من على شواطئ الولاية الساحلية "قريات"، وتحديداً من شاطئ قرية دَغْمَر الْحَاجر. يستطيع المتتبع لسيرتها وفنونها وحيوات أهلها، الإمساك بذلك الخيط "الرّهيف"، بين ثراء المكان وتداخله بين الرّوحي والْمكاني.

احتفال "النيروز" العُماني، يصادف عيد اعتدال الربيع وبدء موسم الزراعة بداية مارس/آذار من كل عام، وهو بذلك يرمز إلى التجدد والدفء وانتعاش الحياة لدى العمانيين.
وضمن هذا المفهوم، يمكننا عقد (مقاربة)، بين مناسبة النيروز العُماني والنيروز الفارسي؛ الذي يتشابه في المعنى والمناسبة، ولكنه يختلف في المضمون والدلالة. النيروز الفارسي مستمد من تقاليد الديانة "الزردشتية" منذ آلاف السنين، حيث كانت الاحتفالات تبدأ مع استفاقة الربيع بالتجمع حول نار تُشعل في موقد كبير ضمن دائرة مرسومة بالحجارة.

بينما "النيروز العُماني" فله علاقة مباشرة بالبحر والصيادين والمراكب ومواسم الزراعة، حيث جيّر العمانيون احتفالهم واحتفاءهم بالطبيعة، وقرنوه بالبحر الذي يُطلُّ على قراهم، ويعتبر مصدر رزقهم على طول بحر عُمان. البحر الذي يغلب عليه السكون، والمخادع في هدوئه، حيث تتغير أحواله وتظهر أهواله في فترة الانقلاب الصيفي على بحر العرب الذي تشتد الرياح الموسمية فيه - ابتداء من شهر مايو/ أيار وتستمر حتى شهر سبتمبر/ أيلول.

ومن الثابت أنّ لكل شيء هُنا حكاية، وبداية حكاية النيروز تبدأ من هذه النقطة الفاصلة بين إعادة الاعتبار إلى حياة البحارة بعودتهم سالمين إلى ذويهم على متن مراكبهم التجارية من موانئ الهند، التي يغادرونها بداية شهر مارس/آذار حيث تدفع الرياح الموسمية الجنوبية الغربية سفنهم لتعبر بأمان بحر العرب، ومنه إلى بحر عُمان - وصولاً إلى قراهم الساحلية - في ولاية قريات.

تلك الرّياح التي عرف عنها العرب أكثر من غيرهم ممن يشاركونهم الإطلالة على المحيط الهندي، والتي سماها عالم البحار العُماني "أحمد بن ماجد" بالنيروز – ومن هُنا، جاءت التسمية لهذه الاحتفالية التي تحتفي بالحياة، واستكانة الطبيعة، من بعد الصخب.
ويصف أ. د شوقي النيروز في معجم "موسيقى عُمان التقليدية" بأنه تمام الحول عند قباطنة السفن والبحارة، وهو احتفال سكان السواحل بنهاية فصل القيظ وعودتهم من المناطق الداخلية التي تكثر فيها البساتين والأرض الزراعية الخضراء والأفلاج وآبار الماء".

وتبدأ طقوس الاحتفال مرة واحدة في السنة مع بداية الربيع، عند سدرة الراسبية - في قرية دَغْمر الحاجر بولاية قريات - بعد أذان العشاء، حيث يتوجه الرجال والنساء والأطفال وهم في أزهى ملابسهم في موكب عظيم إلى البحر. وفي هذه المسيرة الاحتفالية الغنائية تحمل النساء سعف النخيل الجديد وفروع شجر "الشريش" المزهر حديثاً، وتفوح منه رائحة عطر زكية، ويحركنّها على دقات طبول (الرحماني والكاسر)، حيث يلوّحن بتلك الأغصان على إيقاعات "شلات" الغناء العُمانية التقليدية.

بينما الرجال، فإنهم يتقدمون الموكب الاحتفالي بالرقص على إيقاع الطبول بعصا تسمى "الْهوامة"، بحيث تتداخل الإيقاعات مع زغاريد النساء - ويسمع الجميع يرددون أغنية - سيح نيروزنا سيح سيح - ويتم في هذه الأغنية ذكر أنواع الأسماك التي تشتهر بها الولاية كعرفان منهم للبحر، ثم يكملون الاحتفال بمجموعة متنوعة من (أهازيج) وصلات غنائية متوارثة مثل غنائهم:
ياحمامه ياسفرجله
ويش جابش من ذا الجبل
جابوني المشـارفه
وحملوني علـى البوش
(المشارفة؛ قبيلة عُمانية بدوية - تسكن الجبال شرقية عُمان-، بينما "البوش" هو الاسم المحلي للجِمال).
إلى هُنا لم تنته حكاية الاحتفاء بالحياة لدى أهالي ساحل "قريات" العُمانية، ومن مظاهر هذا الاحتفال الموسيقي، تصوير بعض الحيوانات المتوحشة وتسمى "الدمبوشة" وهي تشبه الثور، ويقوم بهذا "التشخيص" شخصان يصوران بجسميهما شكل الحيوان .. فيلبس الأمامي منهما قناعا على الوجه، بينما يمسك أحد المشاركين بمقود يحرك به هيئة هذا الحيوان بين المحتفلين بالنيروز، "فيشيع بينهم البهجة والضحك من ناحية وينظم صفوفهم في موكب النيروز من ناحية أخرى حتى وصول الموكب إلى رمل البحر".

وهُنا، يزداد وهج الاحتفال كلما نقترب من انتصاف الليل ويصير المحتفلون أقرب إلى ضفاف بحرهم العزيز .. حيث يصل الموكب للبحر ويدخل الرجال مشيا بملابسهم في مائه إلى منتصف أرجلهم وهم ينشدون على دقات الطبول وزغاريد النساء، احتفاءً بعودة بحارتهم ومراكبهم التجارية من موانئ (الهند) البعيدة.

لا أحد يمكنه الجزم في ساحل ولاية قريات بالتاريخ الفعلي لبدء هذا الطقس الاحتفالي على وجه التحديد. ولا أحد يمكنه تفسير هذا الاقتران بين طقس زردشتي قديم، وطقس مشابه في ساحل عربي! إلا إذا رجحنا فرضية الاتصال التاريخي والتبادل الثقافي مع "الساسانيين"، - إيران حالياً، الذين احتلوا بعض المناطق العُمانية في أزمنة تاريخية بعيدة.

كما توضح الكثير من المصادر التاريخية بالقول: "إنَّ الاتصال مع دولة هرمز قديماً، (تقع في مضيق هرمز) التي كانت من أهم المراكز التجارية في المنطقة خلال القرنين السادس والسابع عشر، وسيطرت على قلهات في عهد الملك النبهاني أبو المعالي كهلان بن نبهان. فهذا الاحتفال (النيروز) يقع في المنطقة القريبة من قلهات التي اتخذتها (هرمز) مقراً لها في عُمان. لهذا فإن دلالات هذا الاحتفال تقع في ما يتم التعبير عنه من علاقة الإنسان والبحر في ذلك الموسم الذي يصادف قدوم السفن العُمانية من الهند".

ومن الطبيعي بحسب المنحى التاريخي للعلاقة التي فرضتها - الجغرافيا المكانيّة - للسواحل الشمالية للسلطنة على "بحر عُمان"، والمقابلة للسواحل الإيرانية المطلة على مضيق هرمز، أن لا يقتصر التَأثر والتأثير على فنٍّ بعينه، أو لون غنائي محدد؛ يؤدى في منطقة "معينة"، من الجغرافيا العُمانية المترامية الأطراف، كعادة مناطحة الثيران في ساحل شمال الباطنة.
وهُنا في ولايات الباطنة الساحلية (بركاء، والمصنعة والخابورة وصحار) ،يحمل "النيروز" صبغة مختلفة من الاحتفال الإسبوعي لأهل هذه المناطق، عن نيروز - قرى ولاية قريات الساحلية -. حيث يختص الاحتفال في ساحل الباطنة، بعقد حلبات مصارعة أو مناطحة "الثيران".

وهذا النمط من الاحتفال – النيروزي -، هو نوع من الأنشطة والممارسات الرياضية، ولا تتدخل في تأديته الموسيقى، أو أيّ من أشكال الفنون التقليدية الشعبية. وقد هَذّبَ أهلُ السواحل هذا النوع من المبارزات، بحيث تنسجم مع ضوابط دينية تحرم إيذاء الحيوان، وتمنع عقد المُراهنات، والاكتفاء باستعراض قوة الثور في دحر وزحزحة خصمه عن المنطقة المعينة من قبل "الْعَقيد" وهو بمثابة الحَكم في وسط الحلبة.

على صوت دق الطبول وترديد الأغاني التقليدية، أو على وقع حوافر الثيران المتصارعة .. من ساحل قريات إلى ساحل الباطنة. يؤدي العمانيون فنونهم التقليدية النيروزية - بسيملوجيا تقدم حكايتهم المكانية - بالكثير من الفرح، الذي يبدأ من قراهم، ويتوهج عند شرفة البحر.




اقرأ أيضاً: فاتن حمامة: عام على رحيل سيدة الشاشة
دلالات
المساهمون