بروكار: حقوق المرأة محفوظة برعاية "أبضايات" الحارة

29 ابريل 2020
يُروى في المقهى المخصص للرجال قصصا نسائية (يوتيوب)
+ الخط -
"إنه مسلسل دمشقي، وليس مسلسل بيئة شامية". بهذه الكلمات، وصفت الممثلة السورية مها المصري مسلسل "بروكار"، الذي يعرض على العديد من الشاشات العربية في الموسم الرمضاني الحالي، وتشارك المصري ببطولته؛ لتشير من خلال هذا التعريف المختصر إلى أن المسلسل يتمرد على الصور النمطية التي ارتسمت للمجتمع الدمشقي في مسلسلات البيئة الشامية، ولا سيما صورة المرأة، التي صُوِّرَت في هذا النوع من المسلسلات من منظور ذكوري أحادي، يحدد أدوارها الاجتماعية بأدوارها البيولوجية، ضمن نظام اجتماعي أبوي، تعيش فيه المرأة تحت جناح الرجل، مخفورةً بظله ومستسلمة لطاعته.

هذه الصورة المسيئة إلى مكانة المرأة، والتي رُوِّج لها على أنها جزء لا يتجزأ من تاريخ المجتمع السوري في النصف الأول من القرن الماضي، سبّبت حملات انتقاد متلاحقة ذات طابع نسوي، لتنكل بهذه الأعمال، التي اختُزِلَت اصطلاحاً باسم العمل الأنجح تجارياً بينها، "باب الحارة". وأشارت الحملات النسوية إلى أسماء نساء ساهمنَ بصناعة تاريخ سورية الحديث، وكان لهنّ أدوار اجتماعية وثقافية وسياسية، لتؤكد أن اختزال دور المرأة وأفكارها في "باب الحارة" وأخواتها على الإنجاب وخدمة الرجال والصراع لكسب رضاهم أمر مسيء بحق المرأة السورية.

وضمن السياق الهادف إلى إعادة اعتبار المرأة السورية في الدراما التلفزيونية الدمشقية، جاء مسلسل "بروكار"، الذي أنتجته - للمفارقة - شركة "قبنض للإنتاج الفني"، التي تعود إليها حقوق الملكية الفكرية لمسلسل "باب الحارة"، وهو من تأليف سمير هزيم وإخراج محمد زهير رجب.
اختار صنّاع المسلسل اسم "بروكار" لصناعة مسلسل البيئة الشامية الجديد الذي يبرز حقوق المرأة، بالاستناد إلى حكاية شعبية تدعي أن الفرنسيين في فترة الانتداب حاولوا سرقة صنعة "البروكار"، وهو نوع من القماش الذي اشتهرت بلاد الشام بصناعته، ويتكون من ثلاثة خيوط، هي: الحرير والذهب والفضة. ليستشمر الكاتب الحكاية الشعبية للإضاءة على دور المرأة الاقتصادي المغيَّب في مسلسلات البيئة الشامية، بخلق فضاء مهمل، هو فضاء مشغل الخياطة.
وبحسب تصريحات سمير هزيم، يهدف المسلسل من خلال العودة إلى هذه الحكاية الشعبية، إلى الإضاءة على دور المرأة السياسي والاجتماعي، وأن قضايا المرأة ستكون محور المسلسل الذي نسج ما بقي من خطوط درامية من مخيلته. ولكن بعد عرض حلقتين من المسلسل، اتضحت الآليات التي اتبعها هزيم وشركاؤه في صناعة المسلسل لمعالجة البنية الذكورية لمسلسلات البيئة الشامية، وتطويعها لخدمة أفكار ورسائل يظنون أنها داعمة للمرأة، وهي بالمجمل آليات مهترئة وأساليب فظة، تحطّ من مكانة المرأة بدلاً من أن تنصفها. ومن الممكن التدليل على ذلك من خلال عرض بعض المشاهد والصور التي وردت في المسلسل.

في فضاء المقهى المزدحم بالرجال، الفضاء الذكوري الذي يُحرم على النساء ارتياده، يجلس الحكواتي أمام الجموع التي تستعرض ذكورتها، ليلقي عليهم حكاية بطلتها امرأة، بدلاً من حكايات الزير سالم والظاهر بيبرس، ويتفاعلون مع الحكاية وكأنها إحدى حكايات المعارك القتالية الحماسية، ليزيد تفاعلهم المشهد فجاجة. هذه اللوحة المعجونة من السذاجة، والتي تشبه لحد بعيد صورة كاريكاتيرية جرى تشكيلها بمسلسل "ضيعة ضايعة" عن اجتماع للاتحاد النسائي لا يحضره سوى الرجال؛ تجعلنا نسأل حائرين: ما هو الأسوأ من أن تحاول إعادة مكانة المرأة في المجتمع الدمشقي من طريق إلقاء قصة على لسان رجل في مكان كانت النساء محرومةً الولوج إليه بتلك الحقبة؟



لا يعتبر "بروكار" أول مسلسل بيئة شامية تحضر به النساء العاملات، ولكن في المسلسلات السابقة لـ"بروكار" كانت النساء العاملات إما من النخبة المثقفة، طبيبات أو محاميات، أو هنّ نساء عاملات يمارسن العمل في المنزل، كالخياطات والدايات. الجديد في "بروكار" هو فضاء مشغل الخياطة، الذي تديره امرأة وتعمل فيه النساء.
فعلياً، خلْق هذا الفضاء ضمن نطاق مسلسلات البيئة الشامية يعتبر أمراً إيجابياً، ولكن ما يتبعه من مشاهد ضمن فضاء المشغل يجعل هذه الخطوة تفقد قيمتها. فالفضاء أنثوي بحت، لا تختلط فيه النساء بالرجال، والأحاديث الذي تدور فيه وأسلوب الأداء، لا يختلفان إطلاقاً عما كان يصور في "جمعات النسوان والجارات" في هذا النوع من المسلسلات؛ ليبدو المشغل ليس سوى فضاء مغلق جديد تثرثر فيه النساء.

جملة غريبة، نسمعها للمرة الأولى في مسلسلات البيئة الشامية: "بدنا بنت". ففي كل المسلسلات السابقة كان الأهل يحتفلون عندما يكون المولود ذكراً، وينذرون النذور ليأتي "الصبي". وهنا يحاول صنّاع "بروكار" أن يعيدوا للمرأة مكانتها من خلال هذا الحوار المعاكس للاتجاه السائد. لكن المشكلة أن هذه الجملة ترددها عائلة تقدس النظام الأبوي الذكوري الذي يحطّ من مكانة المرأة؛ فنفس العائلة تنصاع لأوامر الرجل "الزكرتاوي" برضىً وامتنان، ما يوحي أن هذه الجملة أُقحِمَت على الحوار بغرض السخرية.

المشكلة الأكبر بالآليات التي يتبعها صنّاع "بروكار" لإعادة مكانة المرأة، هي تحويل مسألة حقوق المرأة واستقلاليتها إلى مسألة لا تتعارض مع المجتمع الأبوي الذكوري، وأن هذه الحقوق ليست سوى هبة يمنحها الرجل "الزكرتاوي" للمرأة ضمن أسرته برضاه. هذه الطريقة التي جرى بها تصوير آلية تحصيل المرأة لحقوقها، تسيء إلى المرأة أكثر من مسلسلات "باب الحارة" وأخواتها، فهي تلغي فعلياً التاريخ النضال النسوي بوجه المجتمعات الأبوية، وتجد رواية بديلة لهذا النضال، وهو أمر أسوأ بكثير من تهميشه.
المساهمون