ما يلي عادة تأليف الحكومات في العالم، مثولها أمام مجلس النواب لنيل الثقة. ولبنان بعدما اجتاز بصعوبة اختبار تشكيل الحكومة الذي امتد على نحو 9 أشهر، انتقل إلى الخطوة التالية، تمهيداً لنيل ثقة مضمونة بحكم المحاصصة التي أفضت إلى تمثيل الأغلبية الساحقة من الكتل والتيارات الممثلة في البرلمان. وعلى مدار يومين، بدءاً من أمس الثلاثاء واستكمالاً اليوم الأربعاء، استمع اللبنانيون وسيستمعون إلى خطابات مكررة، تماماً مثل ما هو الحال بالنسبة إلى البيان الوزاري الذي حمل الكثير من الوعود المكررة من بيانات الحكومات السابقة، خصوصاً تلك المتعلقة بمحاربة الفساد، وانتشال البلاد من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بها، مروراً بالبنود السياسية التي عادة ما تكون حبراً على ورق لا تلزم أحداً، مثل النأي بالنفس عن الصراع الإقليمي، وصولاً إلى الكهرباء التي تراجع منسوب التفاؤل من وعد بعودتها 24 ساعة في اليوم في البيانات السابقة، إلى عدم ربطها بسقف زمني في البيان الحالي، وإضافة جملة "في أسرع وقت ممكن". وما ينطبق على الكهرباء تقول مصادر نيابية تشارك الكتلة التي تنتمي إليها في الحكومة، ينطبق على كل عمل الحكومة عملياً، التي يبدو أنّ الثقة بما يمكن أن تحقق فعلياً تختلف جذرياً عن الثقة الساحقة المتوقّع أن تنالها في مجلس النواب، كما تختلف عن الثقة الشعبية التي تبدو بعيدة جداً.
عملياً، تمثّل الحكومة أكثر من 95 في المائة من نواب البرلمان، وهي ليست المرة الأولى التي يُتبَع فيها تحت شعار "الشراكة الوطنية"، نمط حكومي يقضي فعلياً على دور المؤسسات الدستورية، ومبدأ فصل السلطات، ومحاسبة النواب للحكومة، ومبدأ صراع المعارضة والسلطة، بعد أن تحوّل البلد إلى نظام يشبه الأنظمة القبلية أو على الطريقة المعروفة بـ"لويا جيرغا" (إطار قبلي لتسوية المشاكل العامة والسياسية).
وتمكن ملاحظة عدم اكتراث النواب اللبنانيين أنفسهم للجلسة وما يقال فيها، إذ بدا واضحاً مع انطلاق الجلسات أمس، إمّا خلو القاعة، أو تسامر النواب خلال كلمات زملائهم. وهو المشهد الذي يدركه رئيس المجلس نبيه بري منذ عام 1992، الذي يبدأ عند كل مثول لأي حكومة اتصالاته لاختصار الكلام ولتقليل عدد المتحدثين عبر حصر عدد محدد من الكلمات بكل تكتل. اليوم، ستنال الحكومة ثقة أكثر من 120 نائباً كما هو متوقّع من أصل 128. ثقة ستكون ضربة للنظام الديمقراطي برمته، والذي يتحدث عن سلطة تنفيذية تكون تحت سيف الرقابة والمحاسبة من قبل مجلس النواب.
وبعد الكثير من الكلام، يُقال إنّ الحكومة ستنطلق إلى العمل، تطبيقاً لشعارها "حكومة العمل"، وسط تضارب واضح في الأولويات والأجندات بين الأحزاب والتيارات، وهو ما تجسّد في الخلاف الأخير بين "الحزب التقدمي الاشتراكي" (بزعامة وليد جنبلاط) و"التيار الوطني الحر" (بزعامة جبران باسيل) و"تيار المستقبل" (بزعامة رئيس الحكومة سعد الحريري)، حول الملفات الاقتصادية، وتحديداً تطبيق التعهدات المتعلقة بمؤتمر إقراض لبنان "سيدر"، وتطبيق خطة "ماكينزي" الاقتصادية، وكذلك حول الملفات السياسية من خلال زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي عرض دعم لبنان، فيما انقسمت الساحة بين مؤيد للدعم الإيراني وبين رافض له خوفاً من الارتدادات الدولية السلبية لذلك.
لكن الأبرز في انطلاق جلسات الثقة في لبنان كان الخطاب السياسي المرافق لها، وحديث أغلب الكتل والأحزاب الممثلة في الحكومة عن رفضها منح ثقة عمياء، وأنها على الرغم من كونها شريكاً في الحكومة، إلا أنها ستلعب دور المحاسب والمراقب، في خطاب عبثي يردده أغلب النواب على اختلاف انتماءاتهم السياسية، من "التيار الوطني الحر" إلى تيار "المستقبل" وصولاً إلى "الحزب التقدمي الاشتراكي" و"حزب الله"، وحتى الوزراء أنفسهم.
الناظر من بعيد إلى السياسة اللبنانية يمكن أن يسأل عن هذه الهرطقات الدستورية، لكن في لبنان بات الجميع معتاداً عليها، خصوصاً أنه خلال السنوات الماضية، تظاهر مراراً عدد من الأحزاب اللبنانية على الرغم من مشاركتها في الحكم، وكأن بعض السلطة يتظاهر ضدّ بعضها الآخر. وحتى "التيار الوطني الحر"، الممثل حكومياً بالحصة الكبرى (11 وزيراً)، وصاحب الكتلة البرلمانية الكبرى، والمستحوذ على منصب رئاسة الجمهورية، هدد أخيراً بالنزول إلى الشارع في حال لم تكن الحكومة منتجة أو تمت عرقلة عملها.
بعد ساعات، ستنال الحكومة ثقة عمياء بفعل المحاصصة، وإن ردد بعض النواب نقيض ذلك، إذ لا يتوقع أن يزيد عدد حاجبي الثقة عن 5 أو 6، منهم نواب حزب الكتائب (3) والنائبان "المستقلان" عن الكتل الكبرى، أسامة سعد وبولا يعقوبيان. ومن بين الكلمات، سيكون مفيداً انتظار من تبقى خارج السلطة لعله يقدّم خطاباً معارضاً يُعوّل عليه، وهؤلاء عددهم أقل من أصابع اليد الواحدة، في وقت باتت المعارضة في لبنان عملياً جزءاً من ديمقراطية لفظية، دفنت على وقع محاولات تكريس نظام جديد أساسه المحاصصة والمغانم تحت ستار الطوائف.