غرائب القضاء العسكري اللبناني: متى يتوقف عن محاكمة المدنيين؟

06 يونيو 2019
وففة تضامنية أمام المحكمة العسكرية دعماً لزياد عيتاني(حسين بيضون)
+ الخط -
عادت قضية الممثل المسرحي اللبناني زياد عيتاني في الأيام الأخيرة إلى الواجهة بعد الفصول الأخيرة التي شهدت تبرئة المتهمة بتلفيق ملف "العمالة لإسرائيل" ضده، الضابطة في قوى الأمن الداخلي سوزان الحاج، ثم طلب مفوّض الحكومة لدى محكمة التمييز، غسان الخوري،
نقض قرار التبرئة، ما يرجّح إعادة المحاكمة على غرار قضايا أخرى شهدها لبنان سابقاً. وهو ما سلّط الضوء على المحكمة العسكرية، وعلى دورها وصلاحياتها، وأيضاً على التدخّلات السياسية فيها.

أداة للقمع؟
عند تقاطع المتحف الشهير في بيروت ينتصب تمثال جندي يحمل ميزاناً. لعل المشهد بحد ذاته غريب، نظراً للعلاقة المفترضة بين العدالة والسلطة المدنية، وبين ما يفرض على العسكري من قوانين وموجبات وتراتبية لا تفترض وجود العدالة بالضرورة بل الأوامر والطاعة. عرف لبنان منذ ما قبل الاستقلال (1943) المحاكم الاستثنائية، تحديداً العسكرية منها، التي باتت مع مرور الزمن دائمة، على طريقة قوانين الطوارئ الدائمة في البلدان العربية. واستخدمت مراراً كأداة قمع ضد المعارضين. قبل العام 2005، تاريخ خروج النظام السوري من لبنان، استُخدمت المحكمة العسكرية مراراً لقمع المعارضين المدنيين. حوكم العشرات أمامها بتهم مختلفة، من بينها "تعكير العلاقات مع دولة شقيقة". وبعد العام 2005 لم يجرؤ أحد على رفع الصوت لإلغائها، على الرغم من الدعوات الخجولة بين فترة وأخرى، وعلى الرغم من التقارير الدولية التي تشير دائماً إلى انتهاكات، وإلى ضرورة إغلاق هذه المحكمة.
الكثير من الملاحظات تُسجل من قبل الحقوقيين والمنظمات الدولية على طريقة عمل المحكمة الاستثنائية هذه، أبرزها الصلاحيات الممنوحة لها لمحاكمة المدنيين والقُصر، إضافة إلى علامات استفهام حول مدى استقلالية هذه المحاكم، وخصوصاً في لبنان، الخاضع دوماً للتجاذبات السياسية.

وبسبب طبيعة عدم استقلالية القضاء العسكري، نسبةً لأن تشكيل هيئاته محكوم بالتسلسل العسكري، فإن العقبات تتراكم أمام المحاكمة العادلة في ظله. بالتالي تتحدث الكثير من الجمعيات والمنظمات الدولية عن أن المحكمة تقوّض العدالة، ولا تؤمّن ضمانات المحاكمة العادلة للمتهمين، مع ما يستتبعه ذلك من انتهاكات لحقوق الإنسان عموماً، وحقوق المتقاضين خصوصاً. وهو واقع تقول المنظمات الدولية إنه يتعارض مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والميثاق العربي لحقوق الإنسان. وعلى صعيد مفهوم الحق في المحاكمة العادلة، يمكن رصد جملة من الشروط الأساسية التي تغيب عن القضاء العسكري في لبنان، ولعل أهمها أن الضحية لا تملك صفة الادعاء الشخصي، والحق في جلسة استماع عامة، وعدم إصدار أحكام معللة، وغياب تكافؤ الفرص بين المدنيين والعسكريين، وغياب الحق في الطعن بقرار الإدانة والعقاب لدى محكمة عليا تتسم بالاستقلالية والحيادية.

وكانت المنظمات الدولية أصدرت منذ تسعينيات القرن الماضي أكثر من بيان دعت فيها إلى "حصر الولاية القضائية للمحكمة العسكرية في محاكمة الأفراد العسكريين بسبب انتهاكاتهم للنظام العسكري فقط، وعدم استخدامها لمحاكمة المدنيين أو في قضايا الجرائم الجنائية العادية أو انتهاكات حقوق الإنسان"، كما جاء في بيان منظمة العفو الدولية المتعلق بحقوق الإنسان، الذي صدر بعد تشكيل الحكومة الحالية في لبنان (في يناير/كانون الثاني الماضي) وتضمّن عدداً من التوصيات، وخصص فقرة كاملة للحديث عن المحكمة العسكرية. كما أعربت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في أكثر من بيان صدر في العام 2017 عن مخاوفها بشأن "استقلالية المحكمة العسكرية وحيادها واختصاصها"، مشيرة إلى أن "المحاكمات تجري خلف أبواب مغلقة".


اتهامات بالتعذيب

في سياق الحديث عن لبنان، عادة ما ترصد المنظمات الدولية والحقوقية اللبنانية الكثير من الانتهاكات التي يتعرض لها الموقوف. ويبرز دوماً اسم المحكمة العسكرية، وخصوصاً الجهات المخوّلة التحقيق في القضايا التي تنظر بها المحكمة، في ظل إجراء التحقيقات الأولية بغياب محام، وامتناع المحكمة المستمر عن الالتفات للكمّ الهائل من ادعاءات التعرّض للتعذيب التي تقدّم أمامها. وتتحدث هذه التقارير دوماً عن سوء المعاملة والتعذيب واحتجاز واستخدام اعترافات منتزعة تحت التعذيب أو قسرية كدليل ضدهم في المحكمة، خصوصاً المتهمين بقضايا تتعلق بالإرهاب أو قضايا أمنية، فيما الأحكام التي تصدر عادة ما تكون تعسفية نتيجة استنادها إلى اعترافات مأخوذة بالقوة، إضافة إلى التدخّلات السياسية، ومحدودية حق الاستئناف. وعادة ما تطالب الجمعيات الحقوقية والمنظمات الدولية بإلغاء المحكمة العسكرية، وبالحد الأدنى عدم محاكمة المدنيين، ووقف التعذيب خلال التحقيقات، ورفض القضاة للأدلة المنتزعة تحت التعذيب، كما ضمان وجود محامٍ خلال التحقيقات، وفك القيود عن حضور المحاكمات أمام العامة لتسهيل حضور ومراقبة المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام.

غياب الاستقلالية
اضافة إلى كل ذلك، يركز المنتقدون للمحكمة لبنانياً ودولياً على غياب الاستقلالية والحيادية عنها لعدة اعتبارات، لعل أهمها هيكليتها وطريقة تعيين القضاة، بما أن وزير الدفاع هو من يعيّن القضاة-العسكريين، وبالتالي يكون للرؤساء سلطة عسكرية بسبب التراتبية على الأعضاء الآخرين، وكذلك لمؤسسة الجيش سلطة عسكرية على القضاة، إضافة إلى السلطة السياسية لوزير الدفاع.

حجة الإرهاب
عملياً يستخدم لبنان خلال حواره مع المجتمع الدولي والمنظمات الدولية الداعية إلى إلغاء المحكمة العسكرية، حجة الإرهاب للقول إنه لا يمكن إلغاؤها اليوم بسبب الوضع في المنطقة، وضرورتها لمتابعة ملفات الإرهاب. وهو الموقف الذي عبّر عنه لبنان أمام لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة العام الماضي، عندما قال الوفد اللبناني إن "عدم حل المحكمة العسكرية في لبنان مرتبط بوجود ظروف استثنائية" واعداً بـ"حلها فور انتهاء هذه الظروف".

لكن المحامية ديالا شحادة، التي تؤيد حصر عمل المحكمة بالجرائم المتعلقة بالسلك العسكري في معرض عملهم أو خدمتهم، تقول لـ"العربي الجديد" إنه "تاريخياً ومنذ إقرار قانون الإرهاب في لبنان في العام 1958 أحيلت هذه القضايا إما إلى المجلس العدلي أو إلى محاكم الجنايات العادية، وبالتالي لا نص قانونياً يحدد من ينظر في مثل هذه القضايا أو يحصرها بالمحكمة العسكرية".

وتشير شحادة إلى أنه "في السنوات الأخيرة تمت محاكمة الآلاف في لبنان (سوريين ولبنانيين) بناءً على معلومات أو إخباريات، فيما في الحقيقة قلة منهم ارتكبت فعلياً جرائم إرهاب". وتضيف أن "المحكمة العسكرية تمارس القصاص بطريقة تفسيرها وتطبيقها للقانون (المتعلق بالإرهاب)، وأيضاً بإدارتها لمجريات التحقيق لدى أجهزة التحقيق، كما تخطئ بتفسير القانون وتطبيقه وتظهر كأنها تقاصص السوريين واللبنانيين وغيرهم من الذين حاربوا النظام السوري أو حتى عارضوه وتجاسروا على الإقامة في لبنان حيث يحكم حلفاؤه، وكأن الرسالة أن لبنان لا يمكن أن يكون ملاذاً آمناً لأعداء النظام السوري وحلفائه اللبنانيين".

قضايا أثارت الجدل
لا تُعتبر قضية الممثل المسرحي زياد عيتاني أول قضية تثير الجدل، وتطرح علامات استفهام حول المحكمة العسكرية، وضرورة إلغائها. في السنوات الأخيرة وتحديداً منذ العام 2005 برزت أكثر من قضية، أهمها قضية إسقاط "حزب الله" لطائرة مروحية تابعة للجيش اللبناني في تلة سجد، جنوب لبنان، ومقتل قائدها النقيب سامر حنا، في أغسطس/آب 2008. يومها تحدث أكثر من طرف سياسي عن تدخّلات سياسية في سياق التحقيقات، ولاحقاً اتهمت المحكمة عنصراً واحداً هو مصطفى المقدم الذي أطلق سراحه بعد شهرين فقط، ووُصف الحادث بأنه عرضي، فيما القرار الاتهامي أشار إلى "إطلاق نار عمداً على الطائرة"، إضافة إلى منع وصول سيارة الإسعاف إلى موقع الجريمة. كما أن المتهم لم يمثل أمام المحكمة منذ إطلاق سراحه، قبل أن يتردد أنه قُتل في العام 2014 في سورية خلال مشاركة "حزب الله" في القتال هناك. وفي السياق ذاته، تبرز أيضاً قضية محاولة اغتيال النائب السابق بطرس حرب، في العام 2012، والتي اتُهم فيها المسؤول في "حزب الله" محمود الحايك، والذي لم يمثل أيضاً أمام المحكمة قبل أن تتردد أنباء عن وفاته في سورية.

وإن كانت القضايا الأخيرة تبيّن السطوة الحزبية، فإن قضية الوزير السابق ميشال سماحة كانت الأبرز، خصوصاً أنها كادت أن تؤدي بالبلد إلى منزلق فتنوي، بما أن الأخير نقل متفجرات من سورية إلى لبنان في العام 2012، بالتزامن مع تفجيرات وقعت في طرابلس شمال لبنان، استهدفت مسجدي التقوى والسلام وراح ضحيتها نحو 50 مواطناً.

والفضيحة يومها تمثّلت في الحكم المخفف الذي حظي به سماحة، اذ إن المحكمة العسكرية حكمت عليه بالسجن أربع سنوات ونصف سنة (السنة السجنية في لبنان 9 أشهر)، وأفرج عنه بما أنه قضى المدة، قبل أن تعاد محاكمته أمام محكمة التمييز العسكرية، التي رفعت العقوبة إلى 13 عاماً، بعد اعتراضات سياسية، وتظاهرات خرجت في العاصمة بيروت، ومدينة طرابلس.

وإلى جانب هذه القضايا الشائكة، حوكم في السنوات الماضية عدد من المدنيين الذين تظاهروا في العام 2015 على خلفية أزمة النفايات الشهيرة، والتي تعرضت للقمع من قبل الأجهزة الأمنية، في محاكمات وصفتها المنظمات الدولية بالترهيبية. وكان لبنان شهد مثل هذه المحاكمات أيام الوصاية السورية، ضد الناشطين السياسيين المعارضين للوصاية. ولم تقتصر المحاكمات على الناشطين السياسيين، بل أيضاً حكمت المحكمة غيابياً على الصحافية حنين غدار، بالسجن 6 أشهر على خلفية تصريحات لها انتقدت فيها أداء الجيش اللبناني، فيما طلبت أيضاً رفع الحصانة عن المحامية ديالا شحادة في العام الماضي لأنها كتبت منشوراً على موقع "فيسبوك" أشارت فيه إلى وفاة لاجئين سوريين تحت التعذيب بعد اقتيادهم من مخيمات عرسال إلى مطار رياق.

مشاريع في الأدراج
منذ سنوات يُتداول في لبنان في الكثير من المقترحات المتعلقة بتعديل أو إلغاء المحكمة العسكرية، لكن أغلبها لم يُبحث بجدية لعدة اعتبارات متعلقة بحيثيات الموضوع سياسياً، ورفض بعض الأطراف كلياً بحث الموضوع. وأبرز ما طُرح اقتراح لجنة تحديث القوانين في العام 2012، ومشروع قانون تعديل قانون القضاء العسكري الذي وضعته لجنة كلفها وزير العدل الأسبق شكيب قرطباوي خلال حكومة نجيب ميقاتي (2011 – 2014)، ومشروع تقليص صلاحيات المحاكم الاستثنائية الذي أعده فريق الوزير السابق أشرف ريفي، وتضمّن إنشاء أجهزة قضائية متخصصة بقضايا الإرهاب والجرائم الكبرى، وتعريف مطاط للجريمة الإرهابية. ولكن من بين كل ما طُرح يبدو أن الاقتراح الوحيد الجدي والذي يراعي كافة الجوانب، كان اقتراح تقدّم به النائب السابق إيلي كيروز باسم كتلة "القوات اللبنانية" في العام 2013، بما أنه الوحيد الذي اقترح سحب صلاحية محاكمة المدنيين من المحكمة العسكرية، وبالتالي تحصر عملها بما سماه الاقتراح بـ"الجرائم العسكرية"، وسحب القضايا المتنازع فيها بين مدني وعسكري من المحكمة العسكرية وإحالتها إلى المحاكم المدنية تحقيقاً للمساواة ومبدأ الحيادية.

دلالات