5 سنوات على الثورة التونسية: استحقاقات ناجحة وهواجس

14 يناير 2016
نجح التونسيون بإنجاز ثورة أطاحت برأس النظام (كريستوفر فورلونغ/Getty)
+ الخط -


كرّست الثورة التونسية نفسها تجربة فريدة في الثورات التي يشهدها العالم العربي، مع نجاحها في قلب المشهد الداخلي بشكل كامل، وإسقاط الرئيس الحاكم، حينها، زين العابدين بن علي، على الرغم من الانتكاسات التي شهدتها على مدار خمس سنين تبعت أحداث 14 يناير/كانون الثاني 2011، وما سبقه من تطورات. وجاء الاعتراف الدولي بما حققته هذه الثورة، عبر منح نوبل السلام للرباعي الراعي للحوار، ليؤكد الانقلاب الذي حدث في الحياة العامة في تونس.

وعمّت السعادة التونسيين بعد لحظات من مغادرة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي الأجواء التونسية متجهاً إلى السعودية ليحصل على صفة لاجئ في 14 يناير/كانون الثاني من العام 2011. في تلك الظروف فقط آمن الشعب بأنه أنجز ثورة أطاحت برأس النظام. لكن اليوم بعد خمس سنوات من ذلك المنعرج، يبدو الرأي العام مسكوناً بحيرة شديدة، حيث تعصف بالتونسيين مشاعر قاسية ممزوجة بكثير من الخيبة والعجز عن استشراف المستقبل، وهو ما أثبتته الكثير من استطلاعات الرأي التي أُنجزت في الفترة الأخيرة.

ليس صحيحاً أن التجربة التونسية قد فشلت، فقد حصل انقلاب كامل في المشهد السياسي، وتغيّرت أشياء كثيرة في تونس. فحرية التعبير والصحافة أصبحت واقعاً ملموساً وممارساً بشكل يومي، وذلك على الرغم من التحديات والمناورات الحاصلة في المجال الإعلامي. كما أن الانتخابات الديمقراطية تحوّلت إلى تقليد بعد تنظيم ثلاثة انتخابات هامة تغيّرت خلالها وبسببها موازين القوى بشكل كامل. كما أن الدستور الذي توافقت حوله مختلف الأطراف السياسية ورحب به العالم لم يكن إنجازاً بسيطاً. ولا يزال المسار متواصلاً في اتجاه استكمال بناء المؤسسات السياسية التي ستُشكّل الركيزة القوية لقيام نظام ديمقراطي متين ومتماسك.

مع ذلك، توجد حالياً خيبة أمل واسعة في أوساط الطبقة السياسية. فلم يكن التونسيون يتوقّعون أن نخبهم ضعيفة ومرتبكة إلى هذا الحد. فخلال السنوات الخمس التي انقضت، توالت ست حكومات متعاقبة ومتنوعة في اتجاهاتها السياسية، لكن جميعها لم يحقق القفزة النوعية التي كان ولا يزال التونسيون ينتظرونها منذ انهيار النظام السابق. ولهذا السبب تراجعت نسب المشاركة في الانتخابات بشكل ملحوظ، وأخذ قطاع عريض من المواطنين يتجنبون الاهتمام بالشأن العام، كما تراجعت نسبة متابعتهم للجدل المتواصل بين السياسيين عبر وسائل الإعلام. وما حدث أخيراً داخل حزب "نداء تونس" زاد الطين بلة، إذ كشف الصراع المتواصل بين كوادر مؤسِسَة لهذا الحزب، عن خلاف كبير وجوهري، ما جعل العديد منهم يُقدّمون اعتذاراتهم للتونسيين بعد أن خانوا العهود والوعود التي قدموها لناخبيهم، وهو ما من شأنه أن يصيب الرأي العام بشعور عميق بأن بلادهم تسير نحو وضع صعب.

اقرأ أيضاً: المعارضة التونسية تقاطع احتفالات الثورة "الرسمية"

كما لا يمكن إنكار المأزق الكبير الذي عليه الاقتصاد التونسي. فنسبة النمو تراجعت مع نهاية السنة الماضية إلى حدود 0,5 في المائة، بعد أن كانت خلال حكم الترويكا 2,5 في المائة، في حين سجّلت نسبة النمو في آخر العهد السابق 5 في المائة. كما اشتعلت الأضواء الحمراء في مختلف القطاعات مثل مؤشرات الاستثمار الداخلي والخارجي والبطالة والديون والأسعار. وأصبح التونسيون يئنون كثيراً بسبب تدهور قدرتهم الشرائية. وهو أمر لم يعد ينكره أي مسؤول حكومي بمن في ذلك رئيس الدولة ورئيس الحكومة. وقد انعكس ذلك مباشرة على العلاقات الاجتماعية التي بقيت تتسم بالحدة والاحتقان والصراع حول المصالح المتضاربة سواء داخل القطاع العام، أو بالنسبة للقطاع الخاص.

أما على الصعيد الأمني، فالتونسيون خائفون على الرغم من استمرار ثقتهم العالية في المؤسسة الأمنية وخصوصاً العسكرية. فقد نجحت الجماعات المسلحة الإرهابية في إدارة حرب استنزاف ضد مؤسسات الدولة، وهو ما جعل الخبراء يتحدّثون اليوم عن انتقال تونس إلى مرحلة "اقتصاد الحرب". ويتأكد ذلك عندما يُلاحظ بأن ميزانية كل من الدفاع والداخلية تتعزز على حساب القطاعات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم والتشغيل والضمان الاجتماعي.

أمام هذا الاختلال الواسع بين السياسي من جهة، وبين الاقتصادي والاجتماعي والأمني من جهة أخرى، تتأكد الفجوة القائمة بين الشباب وبين النخب السياسية. وأثبتت دراسات ميدانية أنجزت في الفترة الأخيرة، عزوف الشباب ذكوراً وإناثاً عن الانخراط في الأحزاب السياسية أو الاندماج في المجتمع المدني، وهي ظاهرة يعتبرها مراقبون شديدة الخطورة في مجتمع يمر بمرحلة انتقال سياسي هشة ومعقّدة، وتعكس في الآن نفسه مدى فقدان الثقة في النخب والقادة السياسيين. وبدا كأن الثورة التي أطلقها هؤلاء الشباب، وبدل أن تحافظ على حماستهم وأن تجمعهم لتحقيق الأهداف الوطنية المعلقة والمؤجلة، أشعرتهم بأن محترفي السياسة وأصحاب المال الفاسد قد نجحوا في سرقة الثورة والتلاعب بالعقول والأحزاب والمؤسسات إلى الحد الذي أصبح البعض ينادي بإطلاق ثورة ثانية لتحرير الأحلام الكبرى من مغتصبيها، ما يثير مخاوف البعض من أن قوى الثورة المضادة باتت حقيقة قائمة وواقعاً ملموساً.

في هذه الأجواء المضطربة والساخنة، يستمر جدل يكاد أن يصبح عقيماً بين المثقفين حول تحديد هوية ما حصل قبل خمس سنوات. فقد تراجع عدد الذين يؤمنون بأن ما حدث بين 17 ديسمبر/كانون الأول 2010، يوم أحرق محمد البوعزيزي نفسه، وبين 14 يناير/كانون الثاني 2011، كان ثورة بالمعنى العميق للكلمة. في حين انقسم آخرون بين القائل بأن الذي حدث كان حراكاً احتجاجياً أو انتفاضة محدودة، وبين من يصرّ على اعتبار ما حصل هو انقلاب أو مؤامرة. هذا الجدل من المتوقّع أن يستمر فترة طويلة، لكنه لن يكون فاعلاً بحكم أن معظم المنخرطين في هذا الجدل يتحركون بعيداً عن صلب العملية الاجتماعية المتواصلة على الرغم من كل هذه الاحتجاجات والتأويلات.

ويسعى البعض إلى تذكير التونسيين بخصائص الثورات وما يترتب عنها من اهتزازات شديدة وانتكاسات ظرفية ومتجددة إلى حين اكتمال بقية الشروط المفقودة التي تسمح بخوض المعارك الصحيحة وتجنّب الأوهام، إذ إن بناء أحزاب ديمقراطية ناضجة وقوية عملية تاريخية تحتاج إلى وقت لكي تنضج عبر منهجية التجربة والخطأ.

اقرأ أيضاً: نواب بـ"الاتحاد الوطني الحر" يرفضون الاندماج وكتلة "نداء تونس"