فيما يتراجع الرئيس دونالد ترامب عن الالتزامات الأميركية في الشرق الأوسط، يجد جيل جديد من القيادات المدنية والعسكرية في البنتاغون أنفسهم أمام اختبار التعامل مع قرارات الحرب والسلم، في ظل رئاسة لا يمكن التنبؤ بها، وفي خضم مرحلة من الاضطراب السياسي في واشنطن.
هذا الجيل الجديد من قيادات وزارة الدفاع يحمل توقيع ترامب. مارك إسبر (55 سنة)، الذي تولى منصب وزير الدفاع منذ يوليو/تموز الماضي، هو من متخرجي الأكاديمية العسكرية الأميركية، وكان ضابط مشاة خلال حرب الخليج الأولى. الجنرال مارك ميلي أصبح هذا الشهر رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأميركي، وهو يأتي أيضاً من فرع القوات البرية، ومتخرج من جامعتي برينستون وكولومبيا. تجدر الإشارة إلى أن ترامب اختار تعيين ميلي لهذا المنصب على عكس توصية وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس، التي كانت الجنرال ديفيد غولدفاين. كما اختار الجنرال كينيث ماكينزي، الآتي من البحرية وقاد معارك في حربي أفغانستان والعراق، قائداً للقيادة الأميركية الوسطى. هؤلاء القادة الثلاثة تم التصديق على تعيينهم في مجلس الشيوخ بشبه إجماع، بدأوا يواجهون تحديات التعامل مع النظام الإيراني الذي يزداد تشدداً تحت وطأة العقوبات الأميركية ومع التوغل التركي في سورية، على وقع ارتباك مواقف إدارة ترامب.
اللافت في هذه التعيينات أنها حوّلت ميزان القوى في الجيش الأميركي من القوات البحرية، أي وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس ورئيس هيئة الأركان المشتركة السابق الجنرال جوزف دانفورد، إلى القوات البرية (إسبر وميلي). ومن لعب دوراً رئيسياً في تحديد مسار تعيين إسبر وميلي كان وزير الخارجية مايك بومبيو ورئيس حملة ترامب الرئاسية في ولاية بنسلفانيا خلال انتخابات العام 2016 ديفيد أوربان، ما يعكس كيف اتخذ ترامب قرارات التعيين هذه بناءً على تفاعله الشخصي مع المرشحين وعلى توقعاته من ولائهم له.
تحالف إسبر - ميلي
في حين اختلف كل من إسبر وميلي علناً مع قرار ترامب حظر خدمة المتحولين جنسياً في الجيش الأميركي، فإنهما حرصا على تأييده في القضايا ذات الأولوية بالنسبة للبيت الأبيض، مثل نشر القوات الأميركية على الحدود مع المكسيك، بحيث تواصل ميلي مباشرة مع ترامب حول هذه القضية حين كان لا يزال دانفورد رئيساً لهيئة الأركان المشتركة. كما انحاز كل من إسبر وميلي لقول ترامب إنه تم القضاء نهائياً على تنظيم "داعش"، في موقف يتعارض مع تقرير المفتش العام في البنتاغون، في يوليو/تموز الماضي.
ليس واضحاً بعد ماذا سيكون موقع إسبر في دينامية إدارة ترامب، لا سيما أنه لا يملك نفس ثقل ماتيس في وزارة الدفاع، لكنه يملك شبكة علاقات واسعة في البنتاغون وعلاقة جيدة مع بومبيو (زميله السابق في الأكاديمية العسكرية). كما كان مكتبه إلى جانب مكتب ميلي حين كان وزيراً للقوات البرية. وما يساعد إسبر أنه وصل إلى وزارة الدفاع أخيراً، وبالتالي تجنب التورط في "أوكرانيا غيت"، على عكس زملائه بومبيو ووزير العدل وليام بار، ما سمح للبنتاغون بأخذ مسافة من هذه الفضيحة المستمرة. لكن يبقى التحدي إذا ما سيمثل إسبر مصالح البنتاغون أو سيخدم الأجندة السياسية لترامب.
كما يُعتبر إسبر من الصقور فيما يتعلق بالصين، حيث يسعى في النهاية إلى إعادة توجيه موارد البنتاغون بعيداً عن الشرق الأوسط وأفغانستان، بما يتناسب مع أفكار ترامب للسياسة الخارجية ومع استراتيجية الدفاع الوطني التي أقرها البنتاغون العام الماضي. كما يرى إسبر أنه يجب إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي الإيراني، لمنع طهران من الحصول على سلاح نووي لأجل غير مسمى، وليس فقط 10 إلى 15 سنة. وفيما وصف ميلي، خلال جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ للتصديق على ترشيحه، دور إيران الإقليمي بأنه "خبيث"، فإنه كان أقرب إلى اتخاذ تدابير دفاعية، مثل إرسال قوة بحرية إلى مضيق هرمز بدلاً من الدفع نحو مواجهة مع طهران.
وخلال جلسة التصديق على تعيينه في مجلس الشيوخ، قال إسبر إنه ينحاز إلى ماتيس أكثر من ترامب فيما يتعلق بالموقف الأميركي حيال سورية، فيما أكد ميلي أنه "لن يتم تخويفنا لاتخاذ قرارات غبية. سنعطي أفضل مشورة عسكرية بغض النظر عن عواقبها علينا". لكن في أول اختبار لهما بعد قرار ترامب إعطاء الضوء الأخضر للتوغل التركي في سورية، اتضح أن إسبر كان مشاركاً في الاتصال بين ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان الأحد الماضي، في وقت كشف فيه مصدر عسكري أميركي لشبكة "فوكس" أن ترامب "خرج عن النص" خلال هذا الاتصال. يبدو أن إسبر تعلم من تجربة سلفه ماتيس، الذي واجه ترامب مع قراره الانسحاب من سورية في ديسمبر/كانون الأول الماضي وخسر منصبه نتيجة هذا الأمر. لكن هذه المرة يبدو أن هناك تماهيا بين وزارة الخارجية والبنتاغون ومجلس الأمن القومي في البيت الأبيض لمحاولة استيعاب تداعيات قرار ترامب الأخير حيال سورية. لكن الأسابيع المقبلة ستختبر مدى نجاح إسبر في إنقاذ ما تبقى من مقاربة البنتاغون في سورية.
على مستوى القيادات العسكرية، استفاد كل من ميلي وماكينزي، خلال الأشهر الماضية، من الفراغ المطول في قيادة البنتاغون المدنية، وتمكنا خلال تلك الفترة من صياغة علاقة شخصية مباشرة مع الرئيس. وفي حين يظل ترامب معجبا بشخصية ميلي وماكينزي، لكن قد يكون لطباع الرجلين القوية ردة فعل عكسية في حال كان هناك اختلاف في الرأي مع البيت الأبيض لكي يبقى الجيش محمياً من الحسابات السياسية. كما ليس واضحاً بعد ما إذا حافظ كل من ميلي وماكينزي على تواصلهما المباشر مع الرئيس حتى بعد استلام إسبر منصبه، لأن هذا الامر غير اعتيادي في العرف الأميركي.
ماكينزي المشاكس المستقل
يبقى ماكينزي الصورة المغايرة عن التماهي بين إسبر وميلي، بحيث اختلف مع ترامب علناً حول استمرار المعركة مع "داعش"، كما أنه من الصقور فيما يتعلق بالنظام الإيراني، وكان تعاون مع مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون حول هذا الملف، ما قد يجعل كل من إسبر وميلي ينظران إليه من هذه الزاوية. وينظر البعض إلى ماكينزي على أنه النجم الصاعد في إدارة ترامب، ويصفونه بأنه "الحكم الحقيقي للقوة الأميركية في الشرق الأوسط".
وينظر ماكينزي إلى التوتر مع إيران باعتباره حجة قوية لإبقاء القيادة الأميركية الوسطى والشرق الأوسط في صلب أولويات استراتيجية الأمن القومي الأميركي، بدل تحويل جزء من مواردها لردع الصين وروسيا. مقاربة ماكينزي هي لردع النظام الإيراني عبر تعزيز الانتشار الأميركي في المنطقة من دون السماح لطهران باستفزاز أو استدراج ضربة استباقية من واشنطن. وبعدما تم نشر 1500 جندي أميركي في الخليج في مايو/أيار الماضي، اقترح ماكينزي إرسال 6000 جندي إضافي، لكن البيت الأبيض وافق على نشر ألف جندي فقط في يونيو/حزيران الماضي، مع حرص البنتاغون على وصف هذه الخطوة بأنها "دفاعية" و"لا تسعى لنزاع مع إيران". ماكينزي انتقد ضمنياً حينها قرار البيت الأبيض، مشيراً إلى أنه قد يطلب مرة أخرى زيادة عدد الجنود، لأن النظام الإيراني "لم يتراجع استراتيجياً" بعد.
ليس واضحاً بعد ما إذا سيتقلص نفوذ ماكينزي بعد استقالة بولتون واستلام ميلي منصبه الجديد. على الأرجح سيتمكن كل من إسبر وميلي، باعتبار أنهما يعكسان تردد ترامب بالتورط في حروب الشرق الأوسط، من تقييد مقاربة ماكينزي حيال إيران. كما أنهما يؤيدان التحالف بين بومبيو ووزير الخزانة ستيف منوشين للحفاظ على سياسة "أقصى ضغط" على النظام الإيراني التي ساهمت في تعزيز التوترات الإقليمية. سيكون صعباً على إسبر البروز أمام قيادتين عسكريتين من طينة ميلي وماكينزي، لا سيما أنهما يعلمان جيداً كيفية التعامل مع لعبة البيروقراطية في أروقة البنتاغون وداخل إدارة ترامب، كما أن لديهما قدرة على التواصل المباشر مع الرئيس عند الضرورة. إذا كان تحدي إسبر ضبط إيقاع ميلي، فإن تحدي ميلي نفسه هو ضبط إيقاع ماكينزي. في ضوء هذه الدينامية، لا أحد يجب أن يتوقع أن يلعب البنتاغون، في المدى المنظور، دوراً محورياً في التأثير على سياسة ترامب الخارجية.