توتر ترامب ــ ماكرون يقلب المعادلات داخل حلف الأطلسي

05 ديسمبر 2019
لقاء ترامب وماكرون على هامش قمة الأطلسي(لودوفيك ماران/فرانس برس)
+ الخط -
انقلبت المعادلة داخل حلف شمال الأطلسي بين الطرفين الأميركي والفرنسي، فأصبح الرئيس دونالد ترامب المدافع عن منظمة دولية لطالما انتقدها مقابل اعتبار نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون بأن الحلف في "موت دماغي"، وإصراره وحيداً على صياغة استراتيجية أمنية أوروبية مستقلة، بعد تراجع حليفته المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل عن مشاركته هذه المغامرة. ترامب حصل على مبتغاه في نهاية المطاف، وتمكن من تطويع الحلف الأطلسي وتفتيت الجبهة الأوروبية، فيما روسيا كانت الرابح الأكبر. لا عنوان واحداً للتباين الأميركي - الفرنسي. العلاقة التي كانت ودية قبل عامين بين ترامب وماكرون وصلت إلى حالة من التوتر وظهرت الخلافات إلى العلن في مسائل التبادل التجاري والهجرة والملف النووي الإيراني، بموازاة التقارب المستجد بين ترامب ونظيره التركي رجب طيب أردوغان. على مدى 11 دقيقة على هامش اجتماعات الحلف في العاصمة البريطانية لندن، تبادل ترامب وماكرون انتقادات مبطنة عكست التباعد الذي بدأ يتعمّق بوتيرة أسرع منذ قرار ترامب الانسحاب من الحدود التركية - السورية الذي باغت الفرنسيين مثلما فاجأ مسؤولين أميركيين.

هذه الارتدادات السورية سرّعت هذا التغيير في الحسابات الفرنسية حيال واشنطن. فإدارة ترامب ترغب بإرسال معتقلي "داعش" في سورية الذين يحملون الجنسية الفرنسية إلى باريس فيما يرفض ماكرون ذلك مناقضاً تقييم ترامب بأن الحرب على "داعش" انتهت. القلق الفرنسي المُعلن حول الترتيبات الأميركية - التركية على الحدود السورية، جعل تركيا في مواجهة القوات الكردية التي كانت تخوض المعارك مع الأميركيين والأوروبيين ضد "داعش". ومن هنا كان كلام ماكرون عن ضرورة تعريف الإرهاب في الحلف الأطلسي، في إشارة منه إلى الدعم التركي لمجموعات مرتبطة بـ"داعش". في المقابل، تستفيد تركيا من الغطاء الأميركي عبر تهديد أردوغان بتأخير إجراءات الأطلسي الدفاعية في البلطيق إذا لم يعلن الحلف أن المقاتلين الأكراد "إرهابيون"، في وقت يرى فيه أعضاء من الحلف الأطلسي أن واشنطن لم تتخذ إجراءات صارمة ضد أنقرة بعد شرائها منظومة الـ"أس 400" الدفاعية الروسية.

هذا التحوّل في الموقف الأميركي، عزز الخيار الفرنسي بالانفتاح على روسيا من دون انتظار إدارة ترامب التي تنفذ سياساتها بشكل فردي وهي على مشارف دخول موسم السباق الرئاسي الأميركي. في السياق، وضع ماكرون فيتو على انضمام ألبانيا ومقدونيا الشمالية إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما كانت تطالب موسكو بتأجيله منذ سنوات لمنع توسع الحلف الأطلسي، فيما ترامب، الذي يرغب ضمنياً بحوار مباشر مع موسكو لكن أسباباً داخلية تمنعه، أرسل قوات أميركية إضافية إلى بلدان أوروبية على تخوم روسيا مثل بولندا ودول البلطيق.

كل هذا لم يمنع من عقد القمة الرباعية التي جمعت بين رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وماكرون وأردوغان وميركل، في ظل محاولة تركيا إيجاد دعم دولي لخطة إعادة اللاجئين السوريين إلى المنطقة الحدودية السورية التي سيطرت عليها أنقرة، لكن فعلياً القرار الرئيسي في هذا السياق قد يكون في موسكو وواشنطن. التقارب الأميركي - التركي في سورية قد يدفع ماكرون أيضاً إلى تقارب مع موسكو في سورية في ظل توسع النفوذ التركي.

انتقاد ماكرون للحلف الأطلسي هو ضمنياً انتقاد لقيادة أميركا في ظل ترامب، لأن باريس تعتبر أن واشنطن لا تتشاور مع حلفائها في الأطلسي وبأن هناك حاجة لاستقلالية أوروبية عن أميركا، وإذا كان هذا الأمر غير متاح، فعلى الأقل تأمين استقلالية فرنسا. في المقابل، تريد ميركل خروجاً سلساً من الحكم في ظل التخبط في التحالفات الفيدرالية داخل ألمانيا، وتقول إن برلين غير جاهزة لتحمّل مسؤولية الدفاع عن نفسها من دون الولايات المتحدة، وبالتالي رضخت لضغوط ترامب وقررت مهادنته عبر رفع مساهمات ألمانيا المالية في الأطلسي لتصل إلى مستوى المساهمة الأميركية بحلول عام 2021. مقارنة مع هذه المرحلة الانتقالية في ألمانيا وخروج بريطانيا المحتمل من الاتحاد الأوروبي، فإن النظام الرئاسي الفرنسي يعطي ماكرون حرية أكبر بالتحرك وبالتالي تحدي ترامب، ما يجعل الرئيس الفرنسي صوتاً معارضاً في الحلف الأطلسي وقائد ما تبقى من النظام الليبرالي الدولي. لكن ماكرون قد يواجه في الوقت نفسه مخاطر عزلة فرنسا نتيجة هذه السياسات سواء في الاتحاد الأوروبي أو داخل الأطلسي.

الحلف الأطلسي في أزمة في عيده الـ70. وبدلاً من تنظيم احتفال كبير لهذه الذكرى يكون تقليدياً في واشنطن، حيث تمّ توقيع ميثاق الحلف، قرر المنظمون عقد ما سميّ "تجمعاً" في لندن لا قمة، وذلك لتفادي أي خلافات حول البيان النهائي وأيضاً لتفادي مواقف محرجة لترامب تجاه قادة آخرين كما حصل في يوليو/تموز 2018، حين لمّح الرئيس الأميركي إلى أنه قد يخرج من الحلف كما غادر القاعة خلال خطاب ميركل. يدفع ماكرون أيضاً باتجاه مراجعة استراتيجية لمهمة الحلف الأطلسي التي تم إقرارها آخر مرة عام 2010، لكن الأعضاء الآخرين أكثر تريثاً، ويفضّلون انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية العام المقبل قبل اتخاذ إجراءات جذرية، لا سيما في حال فوز الحزب الديمقراطي في السباق الرئاسي. بالإضافة إلى ذلك، هناك تساؤلات فرنسية حول جدوى استمرار البند الخامس من ميثاق الحلف الأطلسي حول الدفاع الجماعي، وحتى ترامب لم يجب بوضوح عما إذا كانت أميركا ستدافع أيضاً عن الأعضاء في الأطلسي الذين لم يدفعوا كل مساهماتهم المالية للحلف. وفي ظل كل هذه التحديات، يبقى السؤال الرئيسي: هل يمر الحلف الأطلسي في أزمة ثقة بنيوية أم ستهدأ هذه الانتفاضة الفرنسية مع الوقت أم سيأتي التغيير من واشنطن في الانتخابات الرئاسية؟
المساهمون