تواجه حركة النهضة في تونس، عند مفترق الانتخابات الرئاسية المبكرة والتشريعية، تحديات كبرى، خصوصاً توحيد صفوف أنصارها وجمهورها، وحماية خزّانها الانتخابي من آفة تشتت الأصوات. ولا يفصل "النهضة"، باعتبارها لاعباً سياسياً أساسياً في الانتخابات المقبلة، سوى عشرة أيام على انطلاق الحملة الانتخابية الرئاسية، في 2 سبتمبر/ أيلول المقبل، قبل ذهاب الناخبين للاقتراع في 15 سبتمبر، الذي يُعدّ ثاني أيام الحملة الانتخابية التشريعية التي تبدأ في 14 سبتمبر، على أن تجرى في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
ورغم التماسك المشهود لحركة النهضة وصلابة قاعدتها ولحمة قيادتها، على امتداد الهزات التي عاشتها، والأزمات السياسيّة التي مرت بها، فإن نتائج الانتخابات المتعاقبة أثبتت تقلص قاعدتها وتراجع حجم جمهورها وأنصارها إلى ما يقارب الثلث، إذ خسرت الحركة نحو مليون صوت خلال ثماني سنوات. وتظهر أرقام ونتائج الانتخابات التشريعية للعام 2011، التي أفرزت المجلس الوطني التأسيسي الذي كتب دستور الجمهورية الثانية، حصول حركة النهضة على 1498905 أصوات، أي بنسبة تقارب 36.97 في المائة من جملة الأصوات، لتتصدر حينها المشهد البرلماني ومنظومة الحكم السياسي. لكن في انتخابات 2014، تقلص حجم الأصوات، إذ حصلت حركة النهضة على 947014 صوتاً، أي نسبة 27.29 في المائة من مجموع المقترعين، ما جعلها تخسر المركز الأول لمصلحة شريكها حزب نداء تونس. لكنها سرعان ما عادت إلى تصدر المشهد البرلماني ومنظومة الحكم بفضل تماسكها ولحمتها، مقابل تفتت "نداء تونس"، وانقسامه إلى أكثر من خمسة أحزاب.
وازداد انحسار القاعدة الانتخابية لحركة النهضة خلال الانتخابات البلدية في 2018، رغم تعويل قيادتها على كسب رهان الحكم المحلي. وحصلت على 516379 صوتاً، أي نسبة 28.64 في المائة من مجموع الأصوات، ما يعني انحدار قاعدتها إلى الثلث. لكن هذا الأمر يمثل تطوراً على مستوى مشاركة بقية الأحزاب، وتحسناً مقارنة بالعزوف العام عن المشاركة والمقاطعة غير المسبوقة للانتخابات البلدية. كما حافظت الحركة، بهذه النتائج، على المركز الأول، بحصولها على 44 في المائة من المقاعد في البلديات، رغم التراجع الملحوظ في عدد الناخبين. وتبقى "النهضة" متصدرة المشهد الانتخابي منذ الثورة، رغم تقلّص قاعدتها الانتخابية، وهو ما دفع خصومها ومعارضيها إلى اعتبارها أكثر الحركات تنظيماً في البلاد، ويحسب لها ألف حساب من حيث المزاحمة الانتخابية ورسم التحالفات. وتُظهِر المقارنة بين الخارطة الانتخابية في 2014 و2018 أن حركة النهضة حافظت على نفوذها في الجنوب، كما تمدد نفوذها إلى المناطق الساحلية والشمال، والتي كانت حكراً على الأحزاب الدستورية والتجمعية.
وتعي قيادة "النهضة" اليوم جسامة التحدي الذي يعترض مستقبل الحركة بدخول منافسين من العائلة السياسية نفسها السباق، وبصعود تيارات جديدة، بحسب نتائج استطلاعات الرأي، إلى المراكز الأولى، مثل حزب "قلب تونس" لرئيسه صاحب قناة "نسمة" نبيل القروي، والحزب "الدستوري الحر" الذي تقوده عبير موسي، ويجمع فلول "التجمع" المنحل والغاضبين من "النداء" والأحزاب الدستورية، إلى جانب جمعية "عيش تونسي" التي تحولت إلى حركة انتخابية بعد نشاطها الخيري والثقافي.
وتعتمد "النهضة" على فوز مرشحها رئيس البرلمان بالنيابة عبد الفتاح مورو في الانتخابات الرئاسية المبكرة، التي ستكون نتائجها معياراً للانتخابات التشريعية التي تليها، والتي يراهن عليها رئيس الحركة راشد الغنوشي، المرشح بدوره مع قيادات مركزية لعضوية البرلمان المقبل. وينافس مورو من العائلة النهضوية نفسها، رئيس الحكومة الأسبق والأمين العام السابق لحركة "النهضة" حمادي الجبالي، إلى جانب عضو مجلس الشورى السابق حاتم بولبيار، وجميعهم حصلوا على تزكيات من نواب "النهضة" لدعم ملف ترشحهم ومنافسة مرشح الحركة الأساسي. كما يُعد كل من الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي وسيف الدين مخلوف وأستاذ القانون الدستوري قيس سعيد من المرشحين الذين يحظون بتقدير ومساندة أنصار "النهضة" وقواعدها، لاعتبارهم مرشحي منظومة الثورة. وحتى أن سبعة نواب من "النهضة" ساهموا في دخول المرزوقي السباق الرئاسي بتزكيتهم لترشحه لاعتبارات تاريخية وحقوقية وثورية.
وإذا كان نواب الحركة وقياداتها متعاطفين أو مناصرين لمرشحين غير مرشح "النهضة"، ما يفتح أبواب التساؤل عن خيارات الآلاف من أنصارها وقواعدها، فإن المكتب التنفيذي للحركة دعا، تفادياً لتشتت الأصوات وضياع خيارات الجمهور وقواعدها، إلى انتخاب عبد الفتاح مورو للرئاسة. وأصدرت الحركة بياناً رسمياً باسم مكتبها التنفيذي، "يدعو كل مناضلي الحركة وأنصارها إلى دعم ترشح عبد الفتاح مورو، والالتفاف حوله، باعتباره قراراً صادراً عن المؤسسات الرسمية للحركة ويعكس رغبة حقيقية لدى شريحة واسعة من التونسيين داخل الحركة وخارجها، ومسؤولية وطنية مُلقاة على عاتق كل حزب سياسي لدعم التجربة الديمقراطية وتوفير أكبر قدر من الشفافية في إدارة العملية الانتخابية والسياسية". وفي هذا السياق، قال القيادي البارز في الحركة عبد اللطيف المكي، لـ"العربي الجديد"، إن "النهضة" ستدعو قواعدها وأنصارها وجمهورها لانتخاب عبد الفتاح مورو ومساندته، مشيراً إلى أنه يمثل خيار الثورة ويتميز بالخصال والمواصفات التي تؤهله للفوز. وأضاف المكي أن "النهضة" تجاوزت صعوبة التشتت بحسمها واختيارها مرشحاً من داخلها، وخوضها الانتخابات الرئاسية بشكل رسمي، بعيداً عن منطق الحياد والاختيار من خارجها، ما كان سيجعل الوضع أصعب مع أنصارها وجمهورها. واعتبر المكي أن أنصار حركة النهضة يرون في الجبالي والمرزوقي ومخلوف من منظومة الثورة، ويمكن أن تذهب أصوات لهم، وهذا يدخل في منطق التعددية والديمقراطية، لكن الحركة ستحشد أنصارها للتصويت لمرشح مؤسسات "النهضة".
ورجح رئيس مجلس شورى حركة النهضة عبد الكريم الهاروني انسحاب الجبالي لفائدة مورو. وقال "الأخ حمادي الجبالي، ابن حركة النهضة، وأذكر له مقولة كان يكررها: لن تُؤْتى الحركة من قِبَلي أبداً. وأتوقع انسحابه لفائدة مرشح الحركة في الانتخابات الرئاسية عبد الفتاح مورو. هذا وارد جداً". وأضاف الهاروني، خلال إشرافه على اجتماع عام في محافظة مدنين، أن الحركة ستدخل الانتخابات الرئاسية للفوز منذ الدور الأول، و"إن لم يكن ذلك فسنسعى لأن يكون النصر محققاً وقوياً في الدور الثاني". ورأى المحلل السياسي عبد المنعم المؤدب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن هناك صراعاً دائراً حالياً على خزان "النهضة" الانتخابي، يتنازعه مرشحون من منظومة الثورة، من حقوقيين ومناضلين، على غرار المرزوقي والجبالي ومخلوف، مشيراً إلى أن التحدي كبير أمام "النهضة" لحماية خزانها من الأصوات وتوجيهه لفائدة مرشحها الرسمي.
وأضاف المؤدب أن "نتائج الانتخابات المتعاقبة أثبتت أن خزان النهضة متغير، وليس ثابتاً كما يتصوره منافسوها، الذين يعتبرون أن التصويت عقائدي بالأساس، وأن سلوك القطيع ميزة أنصارها، وهو ما ثبت عكسه في الانتخابات الجزئية في ألمانيا. فرغم التزام قيادة الحركة بالتصويت لمرشح حزب نداء تونس في إطار التوافق، قاطع جزء هام من النهضة الانتخاب، فيما صوت آخرون لمنافسي النداء عبر تحرير التصويت. وكذلك كان الوضع في الانتخابات الرئاسية في العام 2014، إذ صوتت القواعد للرئيس الأسبق المرزوقي عكس تصويت قيادة الحركة للرئيس الراحل (الباجي قائد) السبسي، حسب ما أكده راشد الغنوشي، في إطار التوافق بينهما". واستبعد المؤدب فوز مورو من المرحلة الأولى نظراً لحجم المنافسة واحتدامها في وقت يرفض سليلو "النهضة" من المرشحين التنازل والتنحي لمصلحته، على غرار الجبالي الذي أكد تمسكه بمواصلة السباق وعدم التنازل لأي طرف. وتزداد الصعوبات أمام حركة "النهضة" لحماية خزانها الاقتراعي مع اقتراب المواعيد الانتخابية، وضيق الوقت الذي لا يسمح بأن يجول زعماء الحركة وقياداتها لإقناع الأنصار وتمرير الرسالة بشكل مباشر.