بعد هدوء حذر ساد لساعات في شمال غربي سورية، استأنفت قوات النظام، أمس الخميس، عملياتها العسكرية في ريفي إدلب الجنوبي والشرقي، بالتزامن مع محاولة فصائل المعارضة استعادة نقاط جديدة من يد النظام في المنطقة، والذي يؤكّد سيطرته على عشرات البلدات والقرى في ريف إدلب، بحيث لم تعد تفصله عن مدينة معرة النعمان الاستراتيجية، وإحدى كبرى مدن المحافظة، إلا كيلومترات عدة، وذلك بعد أسبوع من المعارك والاشتباكات. وتبدو محافظة إدلب ومحيطها على مفترق طرق وعرة، حيث فتحت العملية العسكرية من قبل النظام والروس في المنطقة، الباب واسعاً أمام كل الاحتمالات، بما فيها اقتحام عمق المحافظة، في حال فشل الجانبين الروسي والتركي في ردم هوة الخلاف حول ملفات عدة في سورية وخارجها، إذ تحولت إدلب كما يبدو إلى ورقة مساومة بين موسكو وأنقرة.
وبعدما كانت قد انخفضت نسبياً وتيرة الأعمال العسكرية في إدلب أخيراً، بسبب الأحوال الجوية السائدة في المنطقة التي تتعرّض منذ يومين لمنخفض جوي، حال كما يبدو دون توغّل قوات النظام ومليشيات تساندها أكثر في عمق المحافظة، وصولاً إلى مدينة معرة النعمان، قالت وكالة "سانا" التابعة للنظام، أمس الخميس، إنّ "الجيش واصل تقدمه وفرض سيطرته على قرى ومزارع عدة". وأضافت الوكالة أنّ "وحدات الجيش على محور أبو الضهور خاضت اشتباكات عنيفة مع إرهابيي جبهة النصرة والمجموعات التابعة لها التي حاولت استغلال الظروف الجوية وانتشار الضباب الكثيف للتسلل والهجوم على بعض مواقع الجيش، وتمكنت بنتيجتها من تطهير قرى ومزارع حلبان وسمكة وتل خطرة وخربة نواف، باتجاه أبو الضهور - معرة النعمان".
بالتزامن مع ذلك، أعلنت فصائل غرفة عمليات "الفتح المبين"، أمس، استعادة السيطرة على إحدى النقاط التي تقدم إليها النظام سابقاً على محور أبو جريف في ريف إدلب الشرقي، وقتل وجرح مجموعة كاملة من قواته هناك، إضافة إلى تدميرها دبابة على ذلك المحور إثر استهدافها بصاروخ مضاد للدروع، بحسب بيان لـ"الجبهة الوطنية للتحرير".
وقالت مصادر محلية إنّ الاشتباكات بين الجانبين تجدّدت بوتيرة عنيفة على محاور بريف معرة النعمان، إثر هجوم لقوات النظام على محوري البرنان وفروان ومحاور أخرى في محيطهما، ترافق مع قصف مكثف متبادل ومعلومات عن خسائر بشرية بين طرفي القتال، في حين بقيت طائرات النظام وروسيا غائبة عن أجواء المنطقة. وقد قصفت الفصائل المسلحة مواقع قوات النظام في المغارة وتل مصيطف وحلبان والبريسة بريف معرة النعمان الشرقي، فيما قصفت قوات النظام محيط معرة النعمان ومعرشورين والدير الشرقي والغدفة وتلمنس. من جانبها، أكدت "هيئة تحرير الشام"، أمس، مقتل عدد من قوات النظام بانفجار لغم بسيارة كانت هذه القوات تستقلها قرب قرية سمكة، جنوبي محافظة إدلب.
وواصلت قوات النظام، أمس، شنّ حربين في وقت واحد: عسكرية على الأرض، ونفسية من خلال بثّ الأخبار التي تبالغ في تصوير مجريات الأعمال العسكرية. إذ زعمت ما تسمى بـ"القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة" لدى النظام، أنّ هناك انهياراً في صفوف فصائل المعارضة السورية. وفي بيان لها نقلته وسائل إعلام النظام، قالت إنّ قوات الأخير سيطرت على مئات الكيلومترات المربعة في محافظة إدلب.
اقــرأ أيضاً
وفي الإطار ذاته، نقلت صحيفة "الوطن" التابعة للنظام، عمن وصفته بمصدر ميداني تأكيده سيطرة قوات النظام على 47 قرية، وهي: أم جلال، أم التوينة، الخريبة، الربيعة، الشعرة، برنان، سحال، الفرجة، أبو حبة، الرفة، السرج، حران، الصيادي، تل الدم، قطرة، تل الشيخ، البريصة، مزرعة العلي، البرج، الحراكي، المنظار، تحتايا، الهلبة، القراطي، كرستنة، المعيصرونة، صقعية، التح، الصرمان، أبو مكي، معراتة، فعلول، الحديثة، أبو دفنة، تقانة، جرجناز، المتراوة، خربة السروني، البستان، المعصرة، خربة أرنبة، مسيبتة، أبو شرجي، برسة، بلقة، تلمنس والغدفة، والعديد من المزارع الصغيرة.
وكانت قوات النظام ومليشيات تساندها قد بدأت في التاسع عشر من شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي، وبعد تمهيد جوي استمر لأكثر من شهر، عملية عسكرية واسعة النطاق انطلاقاً من ريف إدلب الشرقي، وجهتها مدينة معرة النعمان. وقد استطاعت هذه القوات التقدّم لمسافات كبيرة والوصول لمناطق قريبة من المدينة.
إلى ذلك، قال مجلس إدارة مستشفى مدينة معرة النعمان، جنوبي إدلب، إنه تمّ إخلاء المستشفى بالكامل إلى قرب الحدود السورية - التركية. وأوضح أحد أعضاء مجلس إدارة المستشفى، وهو الطبيب باسل الأصفري، في تصريح لوكالة "سمارت" المحلية، إنهم نقلوا 99 في المائة من المعدات إلى مستودعات قرب الحدود التركية في الشمال السوري، بسبب تقدّم قوات النظام والقصف على محيط المستشفى، مشيراً إلى أنهم بدأوا بنقل المعدات منذ يوم الاثنين، بعد نزوح غالبية سكان المدينة وريفها، وتوجه المصابين والمرضى إلى المستشفيات بشمالي محافظة إدلب.
ويأتي هذا التصعيد وسط حديث عن طلب تركي من روسيا بوقف العمليات العسكرية بعد محاصرة النقطة التركية في بلدة الصرمان في ريف إدلب الجنوبي الشرقي أخيراً. وفي غضون ذلك، دخل رتل عسكري تركي إلى الأراضي السورية عبر معبر كفرلوسين بريف إدلب الشمالي، وذلك بعد منتصف ليل الأربعاء – الخميس. ويتألف الرتل، بحسب مصادر محلية، من نحو 80 آلية، اتجه قسم منها نحو النقطة التركية في العيس، جنوب حلب، وقسم آخر توجه نحو الراشدين بضواحي حلب الغربية. وكانت أرتال عسكرية تركية عدة قد دخلت قبل أيام إلى الأراضي السورية عبر معبر كفرلوسين الحدودي بين إدلب وتركيا، حيث توجهت نحو ريف إدلب الجنوبي.
ولا يزال الجيش التركي يحتفظ بـ12 نقطة مراقبة في محيط محافظة إدلب وفق التفاهمات التركية – الروسية، تحاصر قوات النظام اثنتين منها، هي نقطة المراقبة في مدينة مورك في ريف حماة الشمالي، ونقطة الصرمان في ريف إدلب.
في الأثناء، لا يزال الجانبان التركي والروسي يحاولان نسج خيوط تفاهم جديد حول محافظة إدلب، إذ يجري وفد تركي مفاوضات بهذا الشأن في موسكو منذ أيام، وسط أنباء عن مطالبة أنقرة بوقف الأعمال القتالية خشية حدوث موجة لجوء جديدة تضرب المنطقة برمتها. لكنّ موسكو تصرّ على أنّ لا مجال للحديث عن وقف الهجوم إلا بعد بسط السيطرة على مدينة معرة النعمان، الواقعة على طريق "إم-5" الاستراتيجي الرابط بين دمشق وحلب.
وأمس، جدّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مخاوف بلاده من حدوث موجة لجوء سوري جديدة إلى بلاده، داعياً إلى تحقيق التهدئة في إدلب. وقال أردوغان في كلمة له خلال اجتماع لحزب "العدالة والتنمية"، في العاصمة أنقرة: "أبلغنا أوروبا بأنه لم يعد بإمكاننا استيعاب موجة جديدة من اللاجئين، ويجب تحقيق التهدئة في إدلب"، مشيراً إلى أنّ هجمات النظام السوري في المحافظة "لا تجعل وقف إطلاق النار الدائم ممكناً". وأضاف: "فرّ قرابة 100 ألف شخص من تلك الهجمات باتجاه حدودنا".
اقــرأ أيضاً
وفي حديث سابق لـ"العربي الجديد"، عشية زيارة الوفد التركي لموسكو، رجّح الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية كيريل سيميونوف، أن تتعامل موسكو وأنقرة مع الملفين السوري والليبي "ضمن حزمة واحدة". ويبدو أنّ الجانبين يحاولان إعادة الروح لاتفاق سوتشي المبرم في سبتمبر/ أيلول عام 2018، والذي نصّ على إنشاء منطقة عازلة في محيط إدلب بعمق 20 كيلومتراً، واستعادة حركة السير والترانزيت على الطرق الدولية، مع تسيير دوريات تركية وروسية مشتركة في المنطقة، على أن تتعامل أنقرة مع ملف "هيئة تحرير الشام" في شمال غربي سورية.
وفي ظلّ ما يجري من حراك عسكري وسياسي، يقف الشمال الغربي من سورية على مفترق طرق، فكل السيناريوهات مطروحة بما فيها استمرار قوات النظام في التقدم في عمق محافظة إدلب، وإحكام السيطرة على الطرق الدولية، وحصر "هيئة تحرير الشام" وفصائل المعارضة السورية في بقعة جغرافية ضيقة.
ويبدو أنّ محافظة إدلب ومحيطها تحوّلت إلى ورقة مساومة بين أنقرة وموسكو ضمن سياق اتفاقات مختلفة ربما تشمل ريف حلب الشمالي ومنبج ومنطقة شرقي نهر الفرات، وصولاً إلى الملف الليبي، حيث تحوّل الأتراك والروس إلى لاعبين مهمّين فيه.
في السياق، رأى القيادي السابق في "الجيش السوري الحر"، المقدّم سامر الصالح، أنّ السيناريوهات الخاصة بمحافظة إدلب "تتحدد بناء على مصالح الدول"، مضيفاً في حديث مع "العربي الجديد": "كل يوم هناك جديد في هذا الملف الذي يتغيّر بين لحظة وأخرى". وأعرب الصالح عن اعتقاده بأنّ "القتال لن يتوقف في شمال غربي سورية بشكل نهائي، إلا بقرار أممي ملزم أو أميركي نافذ".
من جانبه، رجّح الكاتب المتخصص بالشأن الروسي طه عبد الواحد، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ الجانبين، التركي والروسي، يقتربان من اتفاق جديد حول إدلب، مضيفاً: "الاتفاق سينضج قريباً، لكن بعد سيطرة الروس على مساحات جديدة ضمن حدود متفق عليها".
وأشار عبد الواحد إلى أنّ المعركة "كما هو واضح، تسير باتجاه السيطرة الروسية على الطرق الدولية في شمال غربي سورية". وتابع: "الروس يريدون سورية مفيدة اقتصادياً. لديهم ميناء ينفقون على تحديثه نصف مليار دولار، وهو ميناء طرطوس على الساحل السوري، لذلك هم بحاجة لإحكام قبضتهم، عبر النظام السوري، على الشرايين المهمة للتجارة في مختلف المناطق السورية، والطريقان (أم 4) و(أم 5) يتمتعان بأهمية استراتيجية في هذا السياق".
كما رأى عبد الواحد أنّ "للعملية العسكرية أهدافاً سياسية"، وهو ما عكسته تصريحات المسؤولين الروس في الأيام الماضية، إضافة إلى رفض موسكو منذ أيام تمرير مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي لتمديد آلية المساعدات العابرة للحدود، فهي ترى أنه يجب أن يأخذ مجلس الأمن الدولي تغيّر الواقع الميداني في سورية بالاعتبار.