لا يختلف كثيراً مشهد تشكيل الحكومة اللبنانية عما كان يحصل في العقود الماضية، فبعد ولادة كل حكومة، عادة ما يحط الموفدون من قبل الدول المؤثرة والمهيمنة على الساحة اللبنانية، باستثناء مرحلة الوصاية السورية، حيث كان تشكيل الحكومة، يقتضي نوعاً من العرف بأن يزور رئيسها سورية، في مشهد لا يخلو من تأكيد فعل الوصاية الذي كان سائداً في تلك المرحلة. انتقلت الشعلة عملياً من سورية إلى إيران، وها هو وزير خارجيتها محمد جواد ظريف يحط في بيروت منذ يومين، حاملاً معه ملفاته، التي لا تخلو من صيغة الرعاية، خصوصاً أن من حددها وأعلنها كان الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله.
وصل ظريف إلى لبنان يوم الأحد، ووصلت معه الرسالة. شكلياً، يرافق الوزير وفد رفيع المستوى قيل إنه يحمل معه ملفات سياسية واقتصادية وعسكرية، كتأكيد لما كان قد أعلنه نصر الله قبل أيام من عرض إيراني لتزويد الجيش اللبناني بمنظومة صاروخية جوية، وربما في الشكل أيضاً قد يصلح ضخامة الوفد لمرافقة رئيس حكومة دولة، أو رئيسها، أكثر من وزير خارجية.
لم ينتظر ظريف هبوط طائرته في مطار بيروت. استبق ذلك بتصريح أعلن خلاله أن مؤتمر وارسو المقرر بعد ثلاثة أيام تحت شعار "مواجهة إيران ونفوذها في الشرق الأوسط"، مصيره الفشل. رد بذلك ضمنياً على مساعد وزير الخارجية الأميركية، ديفيد هيل، الذي كان قد زار لبنان قبل تشكيل الحكومة، فأراد ظريف بذلك التأكيد أن لبنان يقع في المعسكر الإيراني في سياق المعركة المفتوحة بين إيران والولايات المتحدة.
وفي انتظار ما سيقوله ظريف اليوم بعد جولته على القيادات اللبنانية، قبل أن ينهي زيارته، يتوقع ألا يخرج فحواها عما قاله نصر الله عندما حدد جدول أعمال الزيارة متحدثاً عن تسليح إيران للجيش اللبناني، وهو ما أعلنه ظريف لدى وصوله إلى لبنان، ودعمه بالكهرباء، وبالأدوية، وهو الملف الذي كان متوقعاً أن يسبب أزمة مع الولايات المتحدة، بسبب محاولات ايران الالتفاف على العقوبات المفروضة عليها، وبسبب مخاوف واشنطن من استغلال الحزب وزارة الصحة عبر وزير حزب الله، جميل جبق.
لكن الأهم في الزيارة هو تكرار ظريف ما قاله نصر الله عندما لفت إلى أنه "عندما تشن على إيران الحرب، فلن تكون وحدها، لأن مصير المنطقة وشعوبها بات مرتبطا بمصير هذا النظام المبارك"، وذلك بعدما سبق أن أعلنت طهران انتصار "حزب الله" في الانتخابات النيابية الأخيرة في مايو/ أيار الماضي.
ويبدو أن اختيار الملفات التي تطمح إيران إلى مناقشتها مع بيروت بعناية، خصوصاً ملف تسليح الجيش اللبناني، الذي لا يقل استفزازاً للولايات المتحدة الأميركية عن ملف الدواء، يفيد بأن إيران تطمح إلى إحكام قبضتها على لبنان، خصوصاً على القوات المسلحة، عبر تسليحها. آخر لقاءات ظريف اليوم الإثنين ستكون مع رئيس الحكومة سعد الحريري. لعل في هذه الزيارة الكثير مما يمكن قوله حتى ولو كان ذلك على سبيل الصدفة، فقبل "احتجاز" الحريري في الرياض العام الماضي، وإعلان استقالته منها، التقى موفداً إيرانياً في بيروت، فكبرت التهمة السعودية في حينها للحريري بأنه استسلم للنفوذ الإيراني في لبنان، وهو ما توحي به اليوم أيضاً مواقف خليجية رسمية وغير رسمية تعتبر أن الحكومة الجديدة هي "حكومة حزب الله".
ورداً على زيارة ظريف وما يحمله من ملفات، بغض النظر عن قدرة لبنان على قبولها أو رفضها، خصوصاً على صعيد الدواء وتسليح الجيش اللبناني، حاولت السعودية الرد على زيارة ظريف بالإعلان عن زيارة للمستشار في الديوان الملكي السعودي نزار العلولا، تبدأ غداً الثلاثاء. وعلم "العربي الجديد" أن الزيارة أقرت على عجل، وبالتالي لا تحمل معها شيئاً باستثناء التهنئة بتشكيل الحكومة، وإجراء جولة مباحثات، على الرغم مما حملته الساعات الأخيرة من مواقف لظريف تحرج المملكة التي لا تزال تعتبر لبنان ساقطاً سياسياً في المحور التابع لـ"حزب الله"، هو ما دفعها سابقاً إلى التشدد في سياساتها، ووقف دعم وتسليح الجيش اللبناني.
وتعتبر مصادر "العربي الجديد" أن هذه النظرة السعودية إلى لبنان لم تتغير، بل يبدو أنها تتعمق، في ظل الموازين التي أفرزتها الانتخابات النيابية الأخيرة، والحكومة الحالية، والتي تؤكد سيطرة "حزب الله" على الساحة الداخلية، من دون وجود أي طرف داخلي قادر على رفع الصوت أو المواجهة، بسبب تشتت القوى التي كانت محسوبة على المملكة، وحتى اختلاف الرؤية السياسية مع بعضها.
الأكيد أيضاً أن زيارة العلولا ستبين مدى الحضور الإيراني في لبنان، مقابل التراجع السعودي، ليس على صعيد الملفات وضخامة الوفد المرافق لظريف، وشكليات الزيارة، فحسب، بل أيضاً على صعيد الحضور الإيراني عبر الحلفاء في لبنان، وعلى رأسهم "حزب الله"، مع توقع البعض أن تشهد زيارة ظريف لقاءً مع نصر الله.
وتختصر المصادر علاقات المملكة بالداخل اللبناني اليوم من خلال الإشارة إلى علاقتها الجيدة حصراً بـ"القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، فيما العلاقة مع الحريري لا تزال رهينة ما حصل في الرياض قبل عام وأربعة أشهر، فضلاً عن التباعد في القراءة السياسية، بين الحريري الذي يرى أن الوقت ليس للمواجهة، وبين الرياض التي لا تزال تعتبر أن الوقوف في وجه "حزب الله" ضرورة.
لكن الخيارات أمام المملكة تبدو ضيقة، بين محاولات العودة إلى لبنان، وبين ترك لبنان لإيران، وسط تساؤلات عما يمكن فعله في مواجهة هذا الواقع، وعن كيفية العودة العربية إلى لبنان، وعن قدرة السعودية الفعلية، بعد سنوات من التخبط في لبنان، والتي كانت سبباً رئيسياً في انفراط عقد تحالف "14 آذار"، وانتصار محور "حزب الله" والوصول إلى الموازين التي باتت حقيقية اليوم حكومياً وبرلمانياً، إضافة إلى ما حصل في سورية من "انتصار" لمحور طهران.