لم تكن صدفة أن عملية "تطوير" ميدان التحرير بدأت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بعد شهر تقريباً من اندلاع التظاهرات الشعبية التي كانت الأكبر في عهد السيسي استجابة لدعوة المقاول والممثل، محمد علي، واستطاع المتظاهرون خلالها دخول ميدان التحرير للمرة الأولى منذ سنوات، الأمر الذي لم يتحقق حتى خلال التظاهرات المعارضة للتنازل عن جزيرتي تيران وصنافير عام 2016. فالميدان الذي كانت قد أجريت له عملية رصف وتشجير موسعة العام الماضي، وكانت مرافقه في حالة جيدة، دخل من جديد في عملية بناء وترميم يراها المواطنون من المارة وعبر مواقع التواصل الاجتماعي "غير ضرورية ومفتعلة وتثير شبهة إهدار المال العام"، وبدا وكأنها محاولة لغلق الميدان وقصر المرور به على السيارات، إذ أصبح من الصعب دخول المارة بسبب إزالة كل الأرصفة والعمل على تشجيرها من جديد.
وتدل المشاهدات على أن عملية الرصف والتشجير المستمرة منذ شهرين بلا تقدّم يذكر، وكذلك عملية توسيع قلب الميدان "الصينية" ليست إلا هوامش للحدث الرئيسي، وهو تغيير شكل الميدان المستقر في ضمائر المصريين باعتباره قالباً للتظاهرات الشعبية وقلباً للثورة منذ يناير/ كانون الثاني 2011، مروراً بكل المحطات الثورية التالية حتى الانقلاب على الرئيس الراحل محمد مرسي في يوليو/تموز 2013.
يعكس بيان الرئاسة على لسان السيسي رغبته في تحويل الميدان النابض بالحياة إلى مكان أقرب "للفُرجة والترفيه"، لا سيما بالمقاربة بين فكرة عرض آثار فرعونية فيه وبين الجهود الحكومية الجارية لإخلاء المباني الرسمية فيه وفي محيطه ونقل مجلس الوزراء والوزارات المهمة ومجلس النواب، المتواجدة كلها في محيط الميدان، إلى العاصمة الإدارية الجديدة. وسيسهم هذا الانتقال، خصوصاً بعد نقل وزارة الداخلية وفصول الدراسة بالجامعة الأميركية خلال الأعوام الثلاثة السابقة، وكذلك إخلاء العديد من أدوار مجمع التحرير الحكومي وبدء نقل المصالح منه والعمل على إخلاء المتحف المصري القديم، في التفريغ الممنهج لمحيط الميدان، بتخفيف الضغط اليومي عنه وبالتالي انتزاع صفته كمحور للعاصمة، وتهميشه، وقصر نشاطه على الجانب السياحي.
وتُظهر الصور القليلة المسرّبة من مصادر حكومية عبر مواقع التواصل الاجتماعي لـ"ماكيتات" تطوير الميدان، أن مناظر الميادين الأوروبية السياحية تسيطر على ذهن أصحاب فكرة التطوير، وهي البعيدة كل البعد عن طبيعة ميدان التحرير حتى الآن كرئة حيوية للعاصمة ومحور مروري بالغ الأهمية، ومركز للمصالح الحكومية الأكثر جماهيرية. وأفكار نظام السيسي للانتقام من ميدان التحرير وتغيير صورته وصرف المصريين عنه، ليست بالجديدة، بل بدأت مباشرة في أعقاب استخدامه لحشد التظاهرات الشعبية ضد مرسي واستغلالها لشرعنة قفز السيسي على السلطة، نظراً لوعي النظام بالأهمية الرمزية والجغرافية للميدان. ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 وفي خضم اندلاع التظاهرات الأسبوعية في مختلف مناطق القاهرة والمحافظات لمعارضة الانقلاب، أغلقت الحكومة ميدان التحرير بشكل كامل واستمرت في عزل الشوارع المؤدية إليه بجدران إسمنتية، ثم افتتح رئيس الوزراء آنذاك حازم الببلاوي نصباً تذكارياً لضحايا "ثورتي 2011 و2013" في قلب الميدان، مما أثار غضب وسخرية التيارات المعارضة، لا سيما أنه تم تعيين وحدة حراسة على مدار الساعة لقلب الميدان بحجة حماية هذا النصب من التخريب، وتبيّن أن الهدف الحقيقي لإنشائه ليس الاحتفاء بالضحايا بل منع التظاهر في الميدان بحجة حماية النصب.
بعد ساعات من وضع النصب الذي كان فقيراً من دون أي سمات تصميمية مميزة، امتدت الأيادي إليه بالتخريب والعبث للسخرية من خطط النظام، فأدى ذلك إلى فرض مزيد من الحراسة عليه، وبمرور الأيام وعودة الحركة المرورية للميدان، تم إهمال النصب تماماً، فلم تستمر أكذوبته لأكثر من عام، لم يدخل خلالهما بهيكله المتواضع وجدان المصريين. في نهاية عام 2014 كانت الحكومة على وشك افتتاح مرأب التحرير الكبير أسفل الميدان، وبدأت في تسيير خدمات (لم تستمر) لنقل أصحاب السيارات والمارة من المرأب إلى مختلف مناطق وسط العاصمة، فزاد مرة أخرى تدفق المواطنين على الميدان، فثار قلق الدولة التي بادرت بإغلاق قلب الميدان من جديد بحجة تحديثه وتطويره.
وفي يناير/ كانون الثاني 2015 وبعد أيام من مرور الذكرى الرابعة لثورة يناير، أقامت محافظة القاهرة احتفالاً متواضعاً في شكله ومضمونه بإقامة "أطول سارية لعلم مصر" في قلب ميدان التحرير، حسبما وصفه الإعلام الرسمي، على الرغم من ارتفاعه 20 متراً فقط، فوق قاعدة إسمنتية قبيحة بلا أي جماليات، قالت المحافظة وقتها إنها "أجرت مناقصة لتصميم وتوريد وتنفيذ المشروع فازت بها شركة تدعى سينا لايت" قامت أيضاً بتركيب نظام إضاءة حديث لقلب الميدان.
ظلت السارية قائمة في موقعها لأكثر من 4 سنوات ونصف السنة، عانى العلم المصري فوقها إهمالاً شبه دائم ليظهر في بعض المرات مقطوعاً أو مقلوباً، ونالت السارية بتصميمها الفقير العديد من التعليقات الساخرة، حتى بدء عمليات التطوير الحالية منذ شهرين، والتي من المقرر أن تنتهي بإقامة مسلة رمسيس الثاني في منتصف "الصينية" وحولها أربعة من الكباش الفرعونية، ليكون الميدان كما يتمناه السيسي "معرضاً أثرياً" في محيط من الفراغ.