وفي حين بدا أن موسكو المستهدفة في شق الجولة الأوروبي لبومبيو، كان واضحاً أن واشنطن تسعى إضافة إلى إبعاد بلدان آسيا الوسطى عن روسيا، لمواجهة التوسع الصيني ومحاولة دق إسفين بين الطرفين عبر التذكير بمعاناة الإيغور (يعيش قسم منهم أيضاً في آسيا الوسطى) المسلمين في جنوب غربي الصين. كما لا يُستبعد أن تكون الزيارة قد شملت ترتيبات تخص الأوضاع الأمنية والسياسية في أفغانستان في إطار "آسيا الوسطى الموسعة" ومنع تمكين إيران في هذه المنطقة، خصوصاً بعد اغتيال واشنطن قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني وإمكانية تحول أفغانستان إلى ساحة للانتقام.
تفكيك الاتحاد السلافي
اختار بومبيو أوكرانيا لتكون بداية جولته الواسعة في المحيط السوفييتي، ومنها جدد موقف واشنطن الداعم لكييف في النزاع المسلح شرقي البلاد والرافض لضم روسيا شبه جزيرة القرم. وبعد نحو شهرين من اجتماع النورماندي (ألمانيا، وفرنسا، وروسيا وأوكرانيا)، تكشف زيارة بومبيو أنه لا يمكن إهمال الدور الأميركي في حل هذا النزاع. ومن الواضح أن تطورات الأوضاع منذ "الثورة البرتقالية" عام 2005 في أوكرانيا، وأحداث السنوات الأخيرة منذ ضم القرم والحرب في دونباس، ساهمت في إبعاد كييف عن موسكو وإضعاف جبهة روسيا الغربية.
وفي محاولة لاستكمال اختراق هذه الجبهة، وتجريد روسيا من القلعة البيلاروسية، شكّلت مينسك المحطة الثانية في جولة بومبيو، في زيارة هي الأولى لوزير خارجية أميركي منذ 1994. وفي تصريحات تخفف الضغط عن الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي اتهم روسيا مراراً بأنها تريد مقايضته على سيادة بلاده، قال بومبيو: "آمل أن نتمكن من تطوير علاقاتنا في اتجاه الاستثمار حتى تتمتع بيلاروسيا بالسيادة والاستقلال... وفق ما أفهم، هذا هو ما تريده". ومع إشارته إلى أنه درس العديد من التقارير حول هذه القضية وهو على دراية بتاريخ طويل من العلاقات البيلاروسية الروسية، شدد الوزير الأميركي على أنه "لا نتحدث عن خيار بيننا وبينهم (موسكو وواشنطن). نحن نتحدث عن العلاقات الدبلوماسية". وكشف بومبيو عن نيّة واشنطن تعيين سفير لها في بيلاروسيا في المستقبل القريب للمرة الأولى منذ 12 عاماً. ومعلوم أن واشنطن ومينسك تبادلتا طرد السفراء في عام 2008، بعدما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على بيلاروسيا بتهمة انتهاك حقوق الإنسان.
في المقابل، كشف الاستقبال الدافئ للوزير الأميركي من قبل لوكاشينكو عن رغبة مينسك في توطيد العلاقات مع واشنطن، وكانت لافتة إشارة الرئيس البيلاروسي إلى نضال مشترك بين الطرفين في مواجهة النازية، وتأكيده أن شعبه محب للسلام، وإعرابه عن سروره لكسر بومبيو عامل الخوف والحذر وزيارة بلاده للاطلاع على ما يشاع عن الدكتاتورية وانعدام الديمقراطية، وكذلك عَقْد اجتماع مغلق في غرفته بعد المباحثات العامة بين الوفدين المرافقين.
وتعليقاً على الزيارة، قال خبير العلوم السياسية وأستاذ أكاديمية العلوم الروسية ألكسندر غوسيف، إن الوزير الأميركي، في زيارته لمينسك، حاول إبعاد بيلاروسيا عن روسيا. وأضاف في تصريحات لوكالة "نوفوستي" الروسية: "يبدو لي أن لوكاشينكو يرى أن هذه الزيارة هي زيارة اقتصادية أكثر منها سياسية. لكن بالنسبة للولايات المتحدة، هي تحدٍ سياسي موجّه إلى روسيا أولاً. لأن الجميع يفهمون أن بيلاروسيا هي القلعة الأمامية لروسيا، والجميع معتادون على التفكير في ذلك. من المهم جداً لبومبيو جس النبض واستكشاف مزاج البيلاروسيين، والوضع العام في البلاد، في ما يتعلق بروسيا".
ويرى خبراء أن واشنطن يمكن أن تتجاوز موضوع حقوق الإنسان، من أجل زيادة الشرخ بين روسيا وبيلاروسيا. وفي تصريحات لـ"صوت أميركا" بالروسية، أشار كبير الخبراء في مركز تحليل السياسات الأوروبية يانوش بوغايسكي، إلى أن "الزيارة تهدف إلى غايتين: الأولى إظهار أن أميركا تدعم سيادة بيلاروسيا وسط ضغوط متزايدة على لوكاشينكو من بوتين، الذي يريد إنشاء اتحاد أوثق، والثانية تأكيد أهمية عدم استضافة بيلاروسيا للقوات الروسية والقواعد العسكرية الروسية على أساس دائم، لأن هذا سيهدد حلفاء الولايات المتحدة مثل بولندا ودول البلطيق". وأوضح أن هناك مكوناً اقتصادياً في الزيارة يكمن في أن الولايات المتحدة تريد أن تفهم ما إذا كان بإمكان بيلاروسيا تنويع مصادر الطاقة في المستقبل من أجل استخدام الغاز الصخري أو النفط الأميركي، بالإضافة إلى استغلال امتلاك بيلاروسيا مختصين فنيين بارعين في مجال الكمبيوتر لتطوير تعاون ثنائي في هذا المجال.
وتفيد الإحصاءات الرسمية بأن حجم التبادل التجاري بين بيلاروسيا والولايات المتحدة ينمو في السنوات الأخيرة، وبلغ من يناير/ كانون الثاني إلى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي 755.2 مليون دولار أميركي، كما وصلت قيمة صادرات الخدمات إلى الولايات المتحدة إلى 946.9 مليون دولار. وفي العام 2018 بلغ حجم التبادل 711.6 مليون دولار، مرتفعاً بنحو 17.6 في المئة عن العام 2017. وفي المقابل، فإن التبادل التجاري بين روسيا وبيلاروسيا وصل في 2019 إلى 23.77 مليار دولار، ما يشير، حسب خبراء، إلى أن العلاقات الاقتصادية مع واشنطن لن تكون بديلاً لعلاقات مينسك مع موسكو على المديين القريب والمتوسط، لكنها تفتح خيارات على المدى البعيد.
وفي حال تمكّنت واشنطن من جذب مينسك، فإن خسارة موسكو ستكون استراتيجية في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية. ومعلوم أن روسيا تحتفظ بقاعدتين عسكريتين كبيرتين في بيلاروسيا، وفقاً لاتفاقية موقّعة بين البلدين عام 1995. وتتضمّن الاتفاقية، التي دخلت حيّز التنفيذ عام 1996، استخدام مركز الاتصال "بارانوفيتشي" لنظام الإنذار للهجمات الصاروخية، واستخدام محطة الاتصالات "فيليكا". وتسري الاتفاقية لمدة 25 عاماً ويجوز تجديدها بموافقة خطية من الطرفين. ومن المفترض أن تنتهي الاتفاقية في عام 2021، غير أن وزير الدفاع البيلاروسي أندري رافكوف، أعلن في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أن "موسكو لم توجّه طلبا رسمياً إلى مينسك بشأن تمديد شروط الإيجار للمرافق العسكرية في بيلاروسيا"، مرجّحاً أن تحل هذه القضية في العام الحالي. ويحذر خبراء من تطور في العلاقات مع بيلاروسيا كما جرى مع أوكرانيا في حال عدم تبني الكرملين خطوات واضحة لجذب لوكاشينكو.
تفعيل صيغة "5 زائد 1"
ومن غرب روسيا إلى خاصرتها الجنوبية، تابع بومبيو رحلته، وحط في كازاخستان، الدولة الأقرب لروسيا في آسيا الوسطى، والعماد الرئيس للهياكل الاقتصادية والأمنية التي بنتها روسيا في الفضاء السوفييتي السابق في العقدين الأخيرين. الزيارة شكّلت فرصة لمعرفة الأوضاع بعد الانتقال السياسي في البلاد، واستطلاع إمكانية استغلال الصداقات القديمة لتعزيز الوجود الأميركي في مواجهة التوسع الروسي والصيني. والتقي بومبيو الرئيس قاسم زومارت توكاييف و"زعيم الأمة" نور سلطان نزارباييف وكال له المديح واصفاً إياه بالصديق القديم للولايات المتحدة، وصانع التغييرات الإيجابية في كازاخستان المثيرة للإعجاب.
بدوره، أشار نزارباييف إلى أن التعاون الأميركي الكازاخستاني بدأ منذ فجر الاستقلال، مع إبرام اتفاقية مع شركة شيفرون النفطية، مؤكداً أن العلاقات متينة مع وجود أكثر من 400 مشروع مشترك، واستثمارات أميركية تصل إلى 45 مليار دولار. ومعلوم أن واشنطن كانت أول دولة اعترفت باستقلال كازاخستان في ديسمبر/ كانون الأول 1991. من جهته، تعهد بومبيو بزيادة الاستثمارات وتنويعها لتشمل المجالات غير النفطية، ومع تأكيده أن واشنطن تدعم حرية كازاخستان في اختيار الدولة التي تتعامل معها، استدرك بالقول: "لكنني متأكد من أنه يتم الحصول على أكبر أرباح للبلاد عند التعاون مع الشركات الأميركية"، في تشجيع مباشر لاختيار الشركات الأميركية على حساب الروسية والصينية.
العاصمة الأوزبكية طشقند، كانت خاتمة جولة بومبيو الماراثونية في محيط روسيا، وسعى فيها إلى البناء على التطور الإيجابي في علاقات البلدين بعد رحيل إسلام كريموف في 2016، وزيارة الرئيس الجديد شوكت ميرزيوييف واشنطن في مايو/ أيار 2018. وتسعى الولايات المتحدة إلى توطيد العلاقات مع أوزبكستان نظراً لأنها أكبر دولة في آسيا الوسطى، وموقعها الاستراتيجي بالنسبة لأفغانستان، إضافة إلى أنها ظلت بعيدة عن الهياكل الاقتصادية والعسكرية والأمنية التي استحدثتها روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وفي العام 2012، قامت طشقند بتعليق عضويتها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، والتي تم إنشاؤها عام 1992 في طشقند وكان اسمها أصلاً معاهدة طشقند. وتأمل واشنطن في إقناع أوزبكستان بعدم الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مع روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا، مستخدمة "جزرة" المساعدة بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. وفي حال استطاعت إقناع أوزبكستان بمواصلة نهجها الحالي بعدم الانضمام إلى الاتحاد الأوراسي تكون قد ضمنت بقاء طاجيكستان خارج هذه المنظومة، ما يفتح أيضاً على إمكانية انضمامها أيضاً إلى محور أمني جديد يضم أفغانستان.
وتوج بومبيو زيارة طشقند باجتماع مع وزراء خارجية أوزبكستان وطاجيكستان وقرغيزستان وتركمنستان وكازاخستان في إطار صيغة "5 +1" التي أطلقتها الإدارة الأميركية في 2015. ويُعدّ اللقاء استكمالاً لمناقشة مبادرة أميركية جديدة لآسيا الوسطى، كانت في سبتمبر/ أيلول الماضي في نيويورك على هامش جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة. وتخشى موسكو من أن الخطة الأميركية تهدف إلى انتزاع دول آسيا الوسطى من الحلف مع روسيا والصين وإشراكها في مشاريع الأمن والطاقة الإقليمية التي ترعاها الولايات المتحدة، مع توجّه إلى تفعيل منظومة جديدة تشمل أفغانستان. والشهر الماضي، انتقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، النشاط الأميركي في آسيا الوسطى، وقال إن "هدفهم (الأميركيين) الحقيقي هو نقل كل المشاريع بمشاركة من آسيا الوسطى في الجنوب، باتجاه أفغانستان، ولكن من دون روسيا الاتحادية".
وعلى الرغم من أن بومبيو امتنع في جولته عن مهاجمة روسيا، وأكد أكثر من مرة أن الولايات المتحدة لا تريد أن تضع الجمهوريات السوفييتية السابقة أمام خيار صعب، موسكو أو واشنطن، فمن الواضح أن تصريحاته ومباحثاته في العواصم الأربع أظهرت أن بلاده ترغب بالاستدارة إلى المنطقة لمنحها خيارات في مواجهة موسكو إن رغبت، ما يتسبّب في إضعاف النفوذ الروسي في الحلقة الأقرب. في المقابل، ونظراً لحجم التأثير الروسي، والعلاقات الاقتصادية والسياسية، فإن واشنطن لن تنجح في تحقيق مهمتها في سنوات قليلة، فحجم التبادل التجاري بين هذه البلدان وروسيا أكبر بمرات كثيرة مقارنة مع التبادل الاقتصادي مع واشنطن، كما تستقطب موسكو ملايين العمال من بلدان آسيا الوسطى لتعويض نقص العمالة.
ووفقاً لنتائج عام 2018، بلغ حجم التبادل التجاري بين كازاخستان وروسيا 17.6 مليار دولار، مرتفعاً بمقدار 7.2 في المئة عن العام 2017. وتحتل روسيا المرتبة الأولى من حيث الواردات إلى جمهورية كازاخستان بنسبة 37.3 في المئة، والمركز الرابع من حيث صادرات المنتجات الكازاخية بنسبة 8.5 في المئة. وبالنسبة لأوزبكستان، فقد بلغت تجارة روسيا معها 4.38 مليارات دولار في 2018، فيما بلغت الصادرات الروسية إلى أوزبكستان 3.32 مليارات دولار، بزيادة قدرها 26.49 في المئة مقارنة بعام 2017. وبلغت واردات روسيا من أوزبكستان 1.06 مليار دولار. ووفق بيانات جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، في النصف الأول من عام 2019، بلغ عدد سكان أوزبكستان العاملين في روسيا 918 ألف شخص. وفي المرتبة الثانية جاء سكان طاجيكستان بما يزيد عن 523 ألف شخص، تلتها قيرغيزستان بـ265 ألفاً، وأوكرانيا بـ164.6 ألفاً، وكازاخستان بـ105.3 آلاف شخص.
وبعيداً عن هدف إبعاد بلدان آسيا الوسطى عن روسيا، يبدو أن واشنطن تسعى أيضاً إلى إبعاد هذه البلدان عن الصين التي أعلنت استثمار عشرات المليارات في هذه البلدان من أجل تنفيذ مشروعها "الحزام والطريق"، كما باتت أهم مستورد للنفط والغاز من هذه المنطقة وأكبر مستثمر في الإنتاج ومد أنابيب النقل. وعزفت واشنطن على وتر العامل الديني، وهو ما بدا في إشارة بومبيو إلى معاناة المسلمين الصينيين من الإيغور. ويجب عدم إهمال عامل مهم للتقارب الأميركي مع بلدان آسيا الوسطى وهو التعاون في مجال محاربة الإرهاب وعدم السماح لإيران باستخدام أفغانستان والمنطقة كساحة للانتقام والمواجهة.