"معارضون" على قياس إسرائيل والنظام السوري... عصام زيتون نموذجاً

15 مارس 2017
"الجيش الحر" تنصّل من زيتون في أكثر من مناسبة(فيسبوك)
+ الخط -

ربّما لم يكن لعصام زيتون صيت يُذكر قبل شهر يونيو/حزيران من العام الماضي، حين ظهر فجأة خلال مؤتمر هرتسيليا الأمني في إسرائيل، ونال حظوة بين المتحدّثين بادّعائه أنه "مسؤول العلاقات الخارجيّة في الجيش السوري الحر". لم يكن ثمة من يعرفه بهذه الصفة المنتحلة قبل المؤتمر، حتى من المعارضة السورية نفسها، والتي نفت معرفتها به على لسان نائبة رئيس الائتلاف الوطني، سميرة المسالمة. لاحقًا اعتذر زيتون عن "الخطأ" الذي "بدر من المنظّمين"، وعرّف نفسه "معارضًا مستقلًّا". لكنه ما زال حتّى اليوم يظهر منتحلاً الصفة نفسها كمتحدث باسم "الجيش الحر"، منتدبًا من رفاقه الإسرائيليين، ومغمورًا، إلا في الإعلام الإسرائيلي، وفي إعلام النظام السوري.

يمثل زيتون، وقلّة مثله، أداة للسياسة الإسرائيلية، التي تحاول استغلال أحداث المنطقة وثوراتها كي تسوّق نفسها لدى شعوب تعتبر إسرائيل العدوّ الأوّل. هؤلاء بالأحرى يمثّلون نموذجًا لصورة الثورة التي تريدها إسرائيل والنظام السوري على حدّ سواء؛ الثورة التي ترفع شعار التطبيع، وتتّخذ من إسرائيل حليفًا مستقبليًّا، وشريكًا طبيعيًّا في نداء الحريّة. ذلك ما تروّجه الروايتان المضادّتان، وعلى هذه الشاكلة، يختزل خطاب إسرائيل وخطاب النظام صورة "سورية الجديدة"، ويتأمّلانها من خلال حالات شاذّة مثل حالة عصام زيتون.

تنعكس تلك السياسة والأهداف في الندوات التي تنظّمها شخصيّات إسرائيلية حول الثورة السورية، ويلمع فيها "معارضون" مغمورون كعصام زيتون، وآخرها كان ندوة عقدت في أواخر الشهر الماضي في جامعة كامبرديج؛ في الندوة الأخيرة، لم تكن الثورة السوريّة محور الحديث، بل ارتكز على أرضيّة مآسيها وويلاتها النقاش عن "الدور الإنساني" لإسرائيل في الساحة السورية. 


مصالح خفيّة

في السابع والعشرين من فبراير/شباط الماضي، اجتمع أكثر من 200 طالب في مدرسة السانت جون اللاهوتيّة لعقد ندوة عامة بعنوان: "ست سنوات على الثورة السوريّة". الندوة نظّمت ببادرة من "منتدى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" (ميناف)، وهي مجموعة طلّابية تنشط في جامعة كامبريدج بإنكلترا، وتعرّف نفسها بأنها "غير حزبيّة".

عكفت على ترويج الندوة على صفحات موقع "فيسبوك" باعتبارها "حلقة نقاش رفيعة المستوى بخصوص مستقبل الأزمة السورية". كان ثمّة أربع شخصيّات على قائمة المتحدّثين؛ من ضمنهم شخصان مجهولا الهوية من المعارضة السورية، كما ظهر حرفيًّا في الإعلان، أحدهما من "الجيش السوري الحر"، والآخر من "الائتلاف الوطني المعارض"، بالإضافة إلى ثائر الحاج، وهو ناشط كردي، وأخيرًا نير بومز، زميل في المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في هرتسيليا الإسرائيلية.


وعلى الرغم من ترويج الحدث على أنه "فرصة رائعة للسماع والحديث إلى المعارضة السورية الحقيقية"، إلا أن الندوة التي انعقدت على أرض الواقع كانت مختلفة تمامًا عما ظهرت عليه في وسائل التواصل الاجتماعي، كما يكشف مجموعة طلاب من جامعة كامبريدج ذاتها، عكفوا على متابعة تفاصيل الندوة، والتقصّي حول المجموعة الطلابية التي تسمي نفسها بـ"منتدى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا"، ويشار لها اختصارًا باسم "ميناف".

وفي تقرير على موقع طلاب الجامعة، يقول الكاتبان غاريث روبن وآدم ستريتر إن ندوة "ميناف"، بعيدًا عن كونها "منتدى" لمناقشة الشأن السوري، تمّ تحييدها عمليًّا بواسطة مصالح خاصّة خفيّة، فإلغاء المتحدّثين الذين كانوا مدرجين على القائمة بلا أسماء واضحة ومحددة، والذي لم يتمّ إبلاغ المشاركين به قبل أن يقطعوا تذاكرهم، جعل الباحث الإسرائيلي بومز المتحدّث الأساسي الوحيد الذي ظهر خلال الحفل، قبل أن ينضمّ إليه عصام زيتون، الذي تصفه الصحافة الإسرائيلية غالبًا بأنه "معارض سوري"، والتحق بالجوقة أيضًا متحدّث إسرائيلي أميركي من أصل سوري (اسمه محذوف)، والذي وصف نفسه بأنه كان منخرطًا في نشاطات الحكومة الإسرائيلية.

الندوة انتهت دون مناقشة جوهريّة للثورة السورية، باستثناء تصريحات زيتون حول وحشية نظام الأسد، والتي انقطعت بعد وقت قصير نظرًا لـ"ضيق الوقت"، وسبق ذلك شرح قصير حول أسباب اندلاع الأزمة، وجهاتها الفاعلة وأطرافها المشاركة، والمستقبل المحتمل للشعب السوري. لكن في مقابل ذلك كله، ركّز اثنان من المتحدّثين الثلاثة على موضوع إسرائيل، وتحدّثوا بإسهاب عن "مساعداتها الإنسانية" في سورية، وامتدّ هذا الحديث على مدار مداخلة بومز التي استمرّت نصف ساعة، وحملت عنوان "الدعم المحرّم: حالة الدبلوماسيّة الإنسانية الإسرائيلية في سورية"، والكلام هنا، كما يلاحظ كاتبا التقرير، لم يركّز على معاناة السوريين أنفسهم، بل بالأحرى كان عرضًا لتضخيم أفعال إسرائيل الجيّدة.


زيتون والشريك الإسرائيلي

الترويج لإسرائيل أمام الجمهور الأكاديمي ليس مشروعًا جديدًا بالنسبة لبومز، فهو نائب الرئيس السابق لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، وهي تابعة لـ"المؤسسة الوقفيّة من أجل الحقيقة في الشرق الأوسط"، والتي تصف نفسها بأنها "تملك موقفًا مؤيّدًا لإسرائيل بلا خجل"، وتعمل بوصفها حركة ضغط على نواب الكونغرس في قضايا تخصّ إسرائيل. أحد النشاطات التي كان يقوم عليها بومز في السابق، كما يكشف تقرير طلاب كامبريدج، هو تنظيم رحلات لأكاديميين أميركيين لغرس وجهة نظر إسرائيل الأمنية إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وترويج أن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية ضروريّ لمنع "حملات إرهابية" ضد إسرائيل.

النبرة السياسية الواضحة وراء حديث بومز لم تجد اعتراضًا من المتحدّثين الآخرين، وهذا يشمل أيضًا عصام زيتون، الذي يعمل مع بومز على تنظيم "أنشطة مساعدات" داخل سورية. كلا الشريكين تحدّثا صراحة حول "جهودهما الإنسانية" في الماضي، وخصوصًا خلال مؤتمر هرتسيليا الذي انعقد في إسرائيل خلال يناير/كانون الثاني 2016، والذي وُصف زيتون خلاله بأنه "ممثل العلاقات الخارجية للجيش السوري الحر". ذلك الأمر قوبل بإدانة رسميّة من "الجيش السوري الحر"، الذي تصدّى لتلك الادعاءات ببيان علني أكّد فيه تنصّله من زيتون.

"معارض" بأمر إسرائيلي 

وجاء النفي على لسان المتحدّث باسم وفد فصائل الثورة السورية إلى أستانة، أسامة أبو زيد، قائلًا إن "المدعو عصام زيتون يدّعي تمثيل الجيش السوري الحر، وشارك في لقاءات في فلسطين المحتلة تحت هذه الصفة. نحن هنا نؤكد بأنه ليس من رابط إطلاقًا بينه وبين الجيش الحر، وإن الجيش الحر وفصائل الثورة تنفي بشكل قاطع علاقتها أو معرفتها به"، وأتبع حديثه أيضًا بالتأكيد على أن "ثورة الشعب السوري ضد الديكتاتورية جزء من سلسلة نضال الشعوب لتقرير مصيرها، وهذا يتضمن كفاح أخواتنا وأخوتنا الفلسطينيين ضد النظام الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي. إن النضال من أجل تقرير المصير وحقوق الإنسان موحد حول العالم، ولا نقبل بأن يكون لنا أي علاقة مع المضطهدين والمستعمرين".

لكن زيتون، الذي ما زال يعيش خارج سورية منذ عام 1990، عرّف دوره على أنه "معارض مستقلّ" بعد أيام من المؤتمر، واعتذر على ما ادّعى أنه كان "خطأً من منظّمي المؤتمر". ومع ذلك، ظهر مرّة أخرى خلال حلقة نقاش عقدت في يناير/كانون الأول الماضي داخل الجامعة العبرية في القدس، حيث ظهر على أنّه "حلقة وصل بين الجيش السوري الحر والمجتمع الدولي"، كما وصفته صحيفة "تايمز أوف إسرائيل". الأمر ذاته تكرّر خلال ندوة "ميناف"، إذ لم يتمّ توضيح ما إذا كان زيتون هو "العضو مجهول الهويّة في الجيش الحر" الذي أشار إليه إعلان المؤتمر في صفحات التواصل.

هذه الشخصيّة المبهمة لزيتون، كما يستنتج كاتبا التقرير، تثير التساؤلات حول جدّيتها ومدى مصداقيّتها، ولا سيما عند الأخذ بالاعتبار علاقته مع بومز. لكن بالنظر إلى تصريحاته لوسائل الإعلام الأميركية، يمكن القول إن اعتباره ممثّلًا للثورة السوريّة يظلّ محدودًا ومحاطًا بالكثير من علامات الريبة، ومن ذلك، مثلًا، تصريحاته لموقع "بريت بارت" العنصريّ (الذي كان يترأسه مستشار ترامب الحالي ستيف بانون)، حين قال: "الفلسطينيون لا يدركون البتة أنهم يعيشون في جنة... حتّى غزة حالها الآن أفضل من سورية خلال أي وقت مضى"، مضيفًا: "إسرائيل قوة عظمى في المنطقة.. لقد بنوا دولةً فشل العرب في بنائها".

الصهيونيّة في حرم كامبريدج

غير أنّ البحث عن "ميناف" وروابطها وعلاقاتها خارج جامعة كامبريدج قد يقدّم لنا لمحة أدقّ عمّا جرى في الندوة المزعومة عن الثورة السورية. ذلك ما عمل عليه الطلاب المشاركون في التقرير، وخلصوا إلى أن ثمّة روابط بين تلك المجموعة الطلابية، التي تسمّي نفسها "مستقلّة"، وبين "لجنة الدقة في أخبار الشرق الأوسط عن أميركا" (كاميرا)، والتي تصف نفسها بأنها "منظمة إعلام، ورقابة، وبحوث، وتنظيم عضوية، مع إيمان لا يتزعزع في قضايا الصهوينة وإسرائيل".

جنبًا إلى جنب مع "المؤسسة الوقفيّة من أجل الحقيقة في الشرق الأوسط" (سبق ذكرها)، تعمل منظمة "كاميرا" سالفة الذكر على إطلاق مبادرات داخل حرم كامبريدج، وتقدّم منحًا دراسيّة للطلاب من أجل "الدفاع عن إسرائيل بشجاعة وعلنيّة ضد العدائيات والتشويه في الحرم الجامعي".

الاستنتاج المباشر الذي يمكن إجماله بعد هذه المعطيّات، هو أنّ ثمّة دوافع مسبقة خلف هذا النوع من "المؤتمرات" التي تتّخذ من القضية السوريّة رافعة لها، وهي دوافع غيرُ متّصلة بالثورة السوريّة، من قريب أو بعيد، بل بتسخير قضيّتها المحقّة وأبعادها الإنسانيّة لإظهار وجه "حضاري" مزيّف لإسرائيل، وهو وجه لا تكتسبه إسرائيل إلا على حساب قضية الشعب السوري.

لعلّ اعتراف زيتون نفسه بأنّه لم يكن يومًا ممثّلًا لـ"الجيش الحر"، ثمّ فرض هذه الصفة عليه في ندوات لاحقة، يردّ الاتّهام عمن كان محلّ شكّ في الرواية الإسرائيلية، وهي المعارضة، إلى من تبنّاها وروّج لها، وهو إعلام النظام وأقطابه. هذا الأخير لا يجد إشكالًا في ترويج الخطاب الإسرائيلي متى ما وافق أجنداته، لكن الإصرار الإسرائيلي المتكرّر على ظهور زيتون ممثّلًا للمعارضة يستبطن، على الأرجح، سياسة رسميّة وراءه، وهي سياسة لا بدّ أنّها تتجاوز خدمة أهداف النظام (فحسب).    

لكن كلّ ذلك لا يمكن أن يفسّر بشكل أدقّ إلا عند مقاربته ضمن الإطار الذي تعرّف إسرائيل نفسها به: أنّها "الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط". تلك "الفرادة"، كما تحاول تسويقها، لا تحتّم عليها أن تؤدي "دورها الإنساني" على الحدود؛ ولا أن تقدّم نفسها على أنّها "يد الحضارة" الممدودة إلى ضحايا الحروب في الدكتاتوريّات المحيطة فحسب؛ بل أن تضطلع أيضًا بما تتخيله "دورًا طبيعيًّا" في حراك الشعوب، بوصفها أنموذج الديمقراطيّة الفريد، وأن تقحم نفسها في نداء الحريّات، التي تتناقض معها، وتلك تناقضات بحاجة إلى قضايا محقّة حتّى تمّحي.