اغتيال إسبر... رسالة إسرائيلية موجهة لإيران

07 اغسطس 2018
قصف مركز البحوث العلمية ببرزة في إبريل الماضي(فرانس برس)
+ الخط -
للصحافة الإسرائيلية ووسائل إعلام الاحتلال أسلوب مميز، وإن كان ثابتاً في التعليق وتغطية وتحليل العمليات الإسرائيلية "وراء الحدود"، سواء كانت غارات جوية أو تفجيرات مجهولة الهوية أو عمليات اغتيال واضحة التفاصيل والخيوط. فهي تبدأ عادة، في حال كون الهدف عالماً أو ناشطاً أو مقاوماً، بسرد تفاصيل "دقيقة" عن هوية الشخص وعلاقاته وارتباطاته. ولا يخفى على القارئ أن مصادر هذه الصحافة هو الأمن الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، إذ تورد وسائل إعلام الاحتلال تفاصيل عن العملية نفسها، تعيد في كثير من الأحيان إلى الأذهان ما نراه في الحلقات والأفلام البوليسية، إذ إنّ التفاصيل المنقولة من "موقع الجريمة" لا يمكن لأحد أن يحصل عليها سوى من تواجد في ساحة الجريمة، قبل وعند تنفيذها. وتنتهي هذه الوسائل عادة باستدراك يهدف، علناً، لتجنّب تأكيد المسؤولية الإسرائيلية رسمياً عن هذه العمليات، وفي الوقت نفسه "التملّص" من تبعات أو واجب عرض المادة على الرقابة العسكرية والالتفاف على محاذيرها، بنسب المعلومات نفسها لـ"تقارير أجنبية". وفي بعض الأحيان كان الصحافيون الإسرائيليون، تحديداً من يعمل منهم أيضاً في صحف أجنبية، يقومون بتخصيص "سبقهم" الصحافي للصحيفة الأجنبية، فيصدر التقرير الموسّع فيها، سواء كانت "دير شبيغل" الألمانية، أو "لوموند" الفرنسية أو موقع "مونيتور" الأميركي، أو حتى "نيويورك تايمز"، ليعاد نشر المادة في الصحف الإسرائيلية منسوبة كتقارير أجنبية.

هذه المقدمة لازمة للانتقال إلى ما نشره الصحافي الإسرائيلي، رونين بيرغمان، الذي عمل مراسلاً لـ"دير شبيغل" وعيّن أخيراً عضواً رسمياً في هيئة تحرير "نيويورك تايمز"، حول عملية اغتيال مدير مركز البحوث السوري، عزيز إسبر قبل يومين. ويملك بيرغمان، الخبير في ملفات التجسّس والحرب السرية بين إسرائيل ومحيطها، علاقات متشعّبة بأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، بفعل اختصاصه وعمله.

وفي تحليل خاص له أمس في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، اختار بيرغمان أن يبدأ "الحكاية" من الانفجار المجهول، أو الخلل الذي وقع في منشآت مركز البحوث والدراسات العلمية في 25 يوليو/تموز من العام 2007، حيث أدى "العطب" أو الانفجار في ذلك المركز المختصّ، بحسب بيرغمان، في تطوير غاز الأعصاب "VX"، إلى مقتل 15 سورياً يعملون في الموقع، إلى جانب إصابة 200 شخص، فيما نجا من "الخلل" العالم عزيز إسبر الذي تمت تصفيته أمس الأول.

وأدلى بيرغمان بتفاصيل مختلفة حول المركز السوري المذكور الذي تأسّس عام 1971، ونشط على مدار سنوات طويلة كمركز أبحاث علمي، في موازاة نشاطه مع مراكز علمية وبحثية غربية، إلى أن "اكتشفت أجهزة الاستخبارات الأميركية والفرنسية أنه في واقع الحال واجهة أمامية للمنظومة العسكرية السورية"، وأنه "واجهة لباقي منشآت ومراكز تطوير السلاح غير التقليدي في سورية"، والتي عمل في صفوفها نحو 10 آلاف شخص. وبعد سرد هذه التفاصيل، أشار بيرغمان إلى أنّ تحقيقات النظام في سورية بالحادث المذكور، بيّنت عام 2007 أنّ "ما وقع كان فعلاً مدبراً"، وأنّ إسبر الذي تغيّب في ذلك اليوم عن الموقع، نجا مرات عدة من "حوادث" مشابهة ومن محاولات اغتيال وتصفية تمّ نسب بعضها إلى غارات نفّذها سلاح الجو الإسرائيلي.


ولم يقف بيرغمان عند هذا الحدّ، بل إمعاناً في تأكيد المسؤولية الإسرائيلية عن عملية الاغتيال، نقل بشكل ساخر تصريحاً لأحد كبار المسؤولين الإسرائيليين يقول فيه: "لينتقم الله له"، في إشارة إلى هوية المنفذين، ليضيف مباشرةً بعد ذلك أنّ "الموساد وشعبة الاستخبارات العسكرية وجهاز الأمن الإسرائيلي، تستثمر جهوداً كبيرة، لفهم وإدراك حجم النشاط الإيراني ونشاط حزب الله في سورية، بهدف تحديد مراكز هذا النشاط ومن ثمّ استهدافه بالقصف والتدمير". وهنا يلجأ بيرغمان مرة أخرى إلى الكليشيهات المعهودة بإضافة عبارة، حسب تقارير أجنبية، قبل أن يقول إنّ إسرائيل نفّذت مئات العمليات في سورية في السنوات الخمس الأخيرة، علماً أنّ رئيس أركان جيش الاحتلال، غادي أيزنكوط، ورئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، أقرا في أكثر من تصريح هذا العام بالقيام بمثل هذه العمليات في العمق السوري، بهدف منع إقامة قواعد إيرانية للمليشيات الشيعية ولمنع أي نشاط للحرس الثوري في سورية، وكذلك من أجل وقف وقصف قوافل السلاح المعدة لـ"حزب الله" في لبنان.

وبحسب بيرغمان، فإنّ قصف مركز البحوث السوري قبل أشهر في مصياف، يدلّ على رسالة إسرائيلية لإيران، كما هو الحال في اغتيال إسبر، لأن "حزب الله" ظنّ أنّ تركيز نشاطه لتطوير السلاح في مصياف يجعله بمأمن من ذراع إسرائيل الطويلة، لكن يتضح الآن، بحسب الصحافي الإسرائيلي، أنّ هذا البعد لم يكن كافياً، وأنه خلال متابعة الاستخبارات الإسرائيلية للنشاط في مصياف، طفا مجدداً اسم عزيز إسبر، المعروف لدى الجهات الإسرائيلية منذ سنوات طويلة. ومع ظهور اسمه مجدداً، تمّ التعامل معه باعتباره حلقة الوصل بين نظام بشار الأسد وبين إيران و"حزب الله". ورغم أنّ خلفيته البحث العلمي، إلا أنّه تحول بسرعة إلى الشخص الأهم في إدارة مشاريع تطوير الأسلحة في سورية "وكان لدى إسرائيل كل الأسباب في العالم التي تجعلها ترغب بتصفيته"، وفق بيرغمان.

ورأى الصحافي الإسرائيلي أنّ "عملية التصفية المنسوبة لإسرائيل تنقل رسالة واضحة مفادها أن العلماء أيضاً، وليس فقط المنشآت، باتوا هدفاً لنشاط إسرائيل ومعرّضون للاستهداف والتصفية". ويبدو أنّ هذه العملية جاءت أيضاً بعد سلسلة من العمليات التي نسبت هي الأخرى لإسرائيل، واستهدفت في السنوات الأخيرة عدداً من العلماء الإيرانيين، الذين لقوا حتفهم في عمليات اغتيال مدوّية وقعت في طهران على يد من تمّ رصدهم والتعريف عنهم بأنّهم "عملاء للموساد".

واستعرض بيرغمان في هذا السياق، سلسلة عمليات مشابهة، مثل عملية اختطاف المهندس الفلسطيني ضرار أبو سيسي في أوكرانيا في شباط من العام 2011، بعد أن شكّت إسرائيل بأنّه مرتبط بتطوير منظومات صواريخ وقذائف لحركة "حماس"، وتمت محاكمته في إسرائيل. كذلك، قامت إسرائيل، في ديسمبر/كانون الأوّل من العام 2016 بتصفية المهندس التونسي محمد الزواري في مدينة صفاقس، والذي كان ناشطاً في تطوير أسلحة لصالح حركة المقاومة الفلسطينية، فضلاً عن تصفية العالِم الفلسطيني فادي البطش في ماليزيا أيضاً.

وأشار بيرغمان إلى أن إسرائيل "حاولت تحذير وتمرير رسائل لعدد من الناشطين في الوحدات السرية لحركة حماس عبر أقربائهم في غزة والضفة الغربية، مفادها أنه يجدر بهم وقف نشاطهم البحثي والعلمي لصالح حركة حماس"، مضيفاً أنّ "مصر قامت هي الأخرى بدور في هذا الإطار، حين اعتقلت أحد ناشطي الأجهزة السرية لحماس عندما كان عائداً للقطاع، وهو (لا يفصح بيرغمان عن هويته) ينتظر للآن انتهاء محاكمته في القاهرة".

واستعان بيرغمان في سياق شرح استراتيجية الموساد، بما سبق أن نُقل عن الرئيس الأسبق لهذا الجهاز، مئير داغان، بشأن سبل تخريب جهود العدو، مثل الاكتفاء بمنع الجهات المصدرة للسلاح من تزويد الطرف الآخر بقطع صغيرة من القطع اللازمة لبناء "المركبة" حتى لا تعمل الأخيرة، وصولاً إلى الطريقة المحببة إليه والتي يلخصها قوله إنّ "الطريقة الفضلى في بعض الأحيان هي قتل سائق المركبة".

ورأى بيرغمان في تحليله لاغتيال إسبر، أنّ "الموساد يواصل هذه الطريقة. فالعمليات التي يقوم بها ضدّ بناء القوة الإيرانية في سورية متواصلة من دون توقف، وخصوصاً الغارات الجوية، ولكن يتضح أنّ أبسط الحلول أحياناً تكون باغتيال السائق".

المساهمون