أطراف المملكة واستفتاء أوروبا: أجواء "حرب وردتين" بريطانية جديدة

08 يوليو 2016
أنصار أوروبا لم يستسلموا بعد (جاستن تاليس/فرانس برس)
+ الخط -
أسبوعان تقريباً مرّا على استفتاء 23 يونيو/حزيران الماضي في بريطانيا. الاستفتاء الذي أخرج "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" من أرض الفرص الأوروبية، إلى شبه انعزال اقتصادي وسياسي واجتماعي. لم يؤدِّ الانفصال إلى بروز ما يُمكن وصفه بـ"أمور إيجابية"، وفقاً لما سبق أن أدلى به دعاة الانفصال، للدفع نحو الابتعاد عن أوروبا، بل على العكس من ذلك، بدأت الجزيرة البريطانية تنزلق شيئاً فشيئاً نحو "حرب وردتين" بين مختلف أطرافها. و"حرب الوردتين" عبارة عن صراع بين عائلتي لانكاستر ويورك بين عامي 1455 و1487 على العرش البريطاني. اعتمدت عائلة لانكاستر "الوردة الحمراء" رمزاً لها، بينما اتخذت عائلة يورك "الوردة البيضاء" رمزاً لها. انتصر آل لانكاستر بالحرب، فحكموا بريطانيا وويلز لـ118 عاماً، فاعتبرت "حرب الوردتين" مفصلية في التسلسل التاريخي البريطاني.

في الاستفتاء الأخير، لم تكن كل مكوّنات بريطانيا، من إنكلترا، واسكتلندا، وإيرلندا الشمالية، وويلز، وجبل طارق، موافقة بالكامل على الانفصال. أظهر التصويت أن إيرلندا الشمالية واسكتلندا وجبل طارق رفضت الخروج من العباءة الأوروبية، فيما وافقت ويلز وإنكلترا على ذلك. الثقل العددي لإنكلترا غطى على كل الفوارق التي أظهرتها جبل طارق وإيرلندا الشمالية واسكتلندا. في جبل طارق مثلاً صوّت 19.322 شخصاً لأجل البقاء في أوروبا، فيما دعا 872 شخصاً للخروج. في إيرلندا الشمالية أيّد 440.707 شخصاً البقاء في أوروبا، فيما رفض 349.442 شخصاً، وفي اسكتلندا أراد 1.661.191 البقاء، فيما رفض 1.018.322 شخصاً ذلك. فارق الـ700 ألف صوت المؤيد للبقاء في تلك الدول الثلاث، مُحي بفعل الأصوات الإنكليزية: 15.187.534 مليوناً دعوا للخروج، و13.247.674 مليوناً للبقاء، كذلك ويلز، إذ أيد 854.572 الخروج، مقابل 772.347 دعوا للبقاء.

تكشف أصوات اسكتلندا وإيرلندا الشمالية وجبل طارق مجموعة معطيات. اسكتلندا مثلاً، التي تتجلّى صورتها النمطية بمراعٍ خصبة منعزلة وحقول نفطية بحرية، تعمل بجهدٍ للخروج من "تقوقعها" الاقتصادي. وقد نجحت في إيلاء المفهوم الاقتصادي الاهتمام على ما عداه، في استفتاء 18 سبتمبر/أيلول 2014، الذي كان محدداً حول رغبة الاسكتلنديين في الانفصال عن بريطانيا أو البقاء فيها. وعلى اعتبار أن لاسكتلندا ثلاثة شركاء اقتصاديين أساسيين، وهم: بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة، فإنها قررت البقاء في بريطانيا في حينه على حساب قوميتها. الأسباب الاقتصادية عينها تدفع اسكتلندا للمطالبة مجدداً بالانفصال عن بريطانيا لصالح العودة لأحضان أوروبا.



بدوره وضع إيرلندا الشمالية مشابه لوضع اسكتلندا في الموضوع الأوروبي. وإذا كان أحفاد وليام والاس مرتبطين جغرافياً بالبرّ الإنكليزي، فإن إيرلندا الشمالية منفصلة جغرافياً، ومرتبطة بالجزيرة الإيرلندية. لبلفاست شريك أساسي واحد: الاتحاد الأوروبي. تُصدّر له 54.7 في المائة من بضائعها، وتستورد منه 55.1 في المائة من احتياجاتها. لا يُمكن لإيرلندا الشمالية تحمّل المخاطرة البريطانية، تحديداً بعد اتفاق السلام بين الكاثوليك والبروتستانت، في عام 1998، المعروف بـ"اتفاق الجمعة العظيمة"، الذي أنهى حرباً طويلة كان "الجيش الجمهوري الإيرلندي" الكاثوليكي عنصرها الأشهر. التبدّلات الاقتصادية في إيرلندا الشمالية، سمحت بكسر التشنّجات السياسية الطائفية في البلاد، وأبعدت أي أحلام وحدوية مع جمهورية إيرلندا في إطار الجزيرة الإيرلندية. غير أن قرار الانفصال البريطاني عن أوروبا، والذي أيّدته أكثرية البروتستانت، ورفضته أكثرية الكاثوليك، دفع البعض للتخوّف من أمرين. الأول، عودة النزعة الاستقلالية عن بريطانيا، وبالتالي عودة العنف إلى شوارع بلفاست. والثاني وهو أن تسعى إيرلندا لاستغلال الوضع المستجدّ للتدخّل في شؤون إيرلندا الشمالية.

مع العلم أن الوضع الاقتصادي الإيرلندي، سيشهد طفرة واسعة، بفعل قرار شركات أميركية وأوروبية، الانتقال إلى دبلن، كبديل عن لندن، خصوصاً أن العاصمة الإيرلندية تتمتّع بالمقومات الجغرافية والبنية التحتية المماثلة للعاصمة البريطانية، وقد تحتاج إلى توسيع مرفأها أيضاً. وأي تطوّر اقتصادي في جمهورية إيرلندا، سيؤثر سلباً على الوضع الاقتصادي في إيرلندا الشمالية، واستطراداً الوضع السياسي.

أما منطقة جبل طارق، التي يعتمد اقتصادها أساساً على الشحن البحري، فإن تشابكها البري مع اسبانيا والبحري مع المغرب في المقلب الآخر من المتوسط، كفيل بجعلها نقطة التقاء اقتصادية، لا تحتاج معه إلى بريطانيا لفرض سياسة اقتصادية مغايرة عليها، ما سيُصعّب البيروقراطية الاقتصادية فيها. الآن قد تُصبح جبل طارق جزءاً من "عبء اقتصادي" على بريطانيا، أكثر من كونها "مفتاحاً اقتصادياً لها في المتوسط".

بالنسبة إلى ويلز، فإن شركاءها الاقتصاديين، محددون: بريطانيا وإيرلندا وأوروبا والولايات المتحدة، لكن يدها العاملة متداخلة أكثر مع إنكلترا، وبصورة أكثر تفاعلية من اسكتلندا وإيرلندا الشمالية وجبل طارق. وضع أثر على وضعيتها بالموافقة على الخروج من الاتحاد الأوروبي.

على أن من العوامل التي ستسمح بتطوّر الإشكاليات في تلك الدول، هو الوضع الداخلي لانكلترا. لا يبدو أن المؤيدين للبقاء في أوروبا سيستسلمون، مع بدئهم تظاهرت مناوئة للانفصال عن أوروبا. كما أن الأوضاع الداخلية الحزبية غير سليمة إطلاقاً. حزب "المحافظين" يمرّ في مرحلة انتقالية مع استقالة ديفيد كاميرون من قيادته ومن رئاسة الحكومة. بدوره يعاني حزب "العمال" من هزة داخلية، مع انقلاب الكتلة النيابية على زعيم الحزب جيريمي كوربين، على الرغم من احتفاظه بثقة القاعدة الشعبية للحزب. أما "مفاجأة" الموسم البريطاني، فكانت استقالة نايجل فاراج، زعيم حزب "الاستقلال". فاراج ناضل لانفصال بريطانيا، وحين تمّ له الأمر، قدّم استقالته من الحزب بغية "التفرّغ لحياته الشخصية". يبدو أن فاراج غير قادر على التعامل مع سلبيات الانفصال، فارتضى التخلّي عن الحزب.

يُمكن فهم المرحلة المقبلة في بريطانيا، من خلال بيان المصرف المركزي الإنكليزي، يوم الثلاثاء، الذي كان واضحاً باعتبار أن "المخاطر على الاستقرار المالي بدأت تظهر". وقرر تخفيف القيود على المصارف التجارية بهدف حضها على الإقراض من أجل دعم الاقتصاد البريطاني. كما رأى محافظ المصرف، مارك كارني، أن "المصرف سيكون بحاجة لتخفيض أسعار الفائدة وربما تقديم حوافز أخرى خلال الصيف. مع ذلك لا يستطيع المصرف امتصاص صدمة الخروج من أوروبا بالكامل". عدا عن الحدّ من حرية التنقل، واستنجاد البريطانيين بإيرلندا وقبرص للحصول على جنسيتيهما، فإن الانتقال البريطاني من الأفق الأوروبي إلى الداخل، يراه كثيرون أقرب إلى فناء ذاتي.


المساهمون