صراع رجالات الحكم في الجزائر: صقور جبهة التحرير الوطني يقاومون "الانقلاب"

20 نوفمبر 2018
ترفض قيادات تسلّم بوشارب أمانة الحزب (العربي الجديد)
+ الخط -
لا تخرج أزمة الحزب الحاكم في الجزائر، "جبهة التحرير الوطني"، عن صراع أكبر يعيشه النظام الحاكم في البلاد في الفترة الأخيرة، مع مرض الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة واختفائه عن المشهد، بما أفسح المجال لطرح تساؤلات كبيرة عمن يدير البلاد فعلاً، ليؤدي اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، المقررة في إبريل/نيسان، إلى انقسامات إضافية، تتمحور حول الرغبة المعلنة من البعض بالتجديد لبوتفليقة لولاية خامسة، مقابل أطراف تتبنّى نظرة أخرى ولكنها لا تُظهر ذلك علناً.

وتلوح في أفق "جبهة التحرير الوطني" نذر مواجهة سياسية حامية بين كوادره، على خلفية محاولة شخصيات وأطراف نافذة في الحزب تُوصف بالصقور، مقاومة الانقلاب المفاجئ في أعلى قيادة الحزب، بعد البيان الذي صدر الأربعاء الماضي، ونُسب إلى مصدر رسمي (صدر في الغالب عن الرئاسة)، يفيد باستقالة الأمين العام للحزب، جمال ولد عباس، من دون أن يعلن الأخير استقالته فعلياً.

هذا التطور خلق حالة من الغموض بين قيادات وكوادر في الحزب الحاكم حول وضع قيادته السياسية، منذ الأربعاء الماضي، تاريخ نشر التلفزيون الرسمي ووكالة الأنباء الحكومية، التي قال الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في وقت سابق إنه رئيس تحريرها، بياناً تضمّن إعلان استقالة الأمين العام لـ"جبهة التحرير الوطني" جمال ولد عباس، جاء فيه أن "ولد عباس قرر تقديم الاستقالة لأسباب صحية تستلزم عليه قضاء عطلة مرضية مطوّلة، وسيخلفه مؤقتاً على رأس الحزب معاذ بوشارب، حتى تقرر هيئات الحزب تعيين أمين جديد في هذا المنصب".

وعلى الرغم من أن التلفزيون والوكالة الرسمية نقلا البيان عن "مصدر رسمي عليم"، والذي يشير في الغالب إلى الرئاسة وجهات حكومية رسمية، فإن الأمر الذي زاد من حالة الغموض الحالية، إصدار الحزب الحاكم مساء الأحد بياناً نفى فيه تقديم أمينه العام جمال ولد عباس استقالته. وجاء فيه "يؤكد الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، أنه يوجد في فترة راحة بعد الوعكة الصحية التي ألمّت به، كما يؤكد أنه لم يُدلِ بأي تصريح، وأن كل ما ورد على لسانه في بعض وسائل الإعلام لا أساس له من الصحة، ويفند قطعياً كل ما تردد من إشاعات حول هذا الموضوع".

نفي الأمين العام للحزب الحاكم استقالته، وهو أبرز المتحمسين لترشح بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، وقبل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية المقبلة، عزز من مواقف قيادات فاعلة في الحزب رفضت التسليم باستقالة الأمين العام، والإقرار لرئيس البرلمان معاذ بوشارب بتسلّم زمام قيادة "جبهة التحرير الوطني"، كونها تدرك أن التسليم له يعني أنها معنية بالاستبعاد والتغيير الشامل في قيادة الحزب.

وفي هذا السياق، يذهب عضو المكتب السياسي للحزب، أحمد بومهدي، وهو أحد صقور الحزب، إلى تصعيد ينبئ باحتمال حصول مواجهة داخل "جبهة التحرير الوطني"، بين صقور الحزب من القيادات المحافظة، وبين رئيس البرلمان الذي عيّنته الرئاسة مديراً مؤقتاً لشؤون لحزب، على الرغم من أن الأخير لا يحق له قانونياً قيادة الحزب. وقال بومهدي في تصريح لـ"العربي الجديد": "لا يمكن لهم (يقصد الرئاسة) أن يزيحوا شخصاً ويعيّنوا آخر بدلاً عنه بهذه الطريقة، معاذ بوشارب لن يكون أميناً عاماً، والحزب تسيّره قوانين"، مضيفاً "القانون الأساسي يشير بوضوح إلى أنه في حال شغور منصب الأمين العام ينوب عنه عضو المكتب السياسي الأكبر سناً حتى عقد اللجنة المركزية اجتماعاً لانتخاب أو تزكية أمين عام جديد". وبدا رفض صقور الحزب الحاكم تسليم قيادته إلى رئيس البرلمان، واضحاً من خلال إصرار بومهدي على تمثيل الحزب في اجتماع قيادات التحالف الرئاسي، بدلاً من السماح لمندوبين عيّنهم رئيس البرلمان.

وطالب بومهدي وكالة الأنباء الجزائرية بالكشف عن المصدر الرسمي الذي استندت اليه واستقت منه خبر استقالة الأمين العام، قائلاً "لا أعلم من أين استقت الوكالة خبرها، الأمين العام لم يصدر أي استقالة، والحزب لم يُصدر أيضاً أي بيان عن استقالة ولد عباس، والهيئات القيادية للحزب لم تجتمع للتداول في هذه الاستقالة"، مضيفاً "إذا كان من سؤال يوجّه في هذا الشأن، فإلى وكالة الأنباء التي عليها أن تكشف لنا من هو هذا المصدر الرسمي العليم الذي استندت عليه". وأضاف "ما أستطيع أن أؤكده لكم أن ولد عباس لم يستقل من منصبه، الرجل في فترة نقاهة بسبب وعكة صحية ألمّت به، لكنه يتابع أنشطة الحزب بشكل عادي". وقبل تصريحات بومهدي، سألت "العربي الجديد" المتحدث الرسمي باسم الحزب فؤاد سبوتة عن مدى صحة استقالة الأمين العام، فرد قائلاً "ليس بعد"، من دون أن يقدّم أي توضيحات إضافية.


وتشير المعطيات الراهنة إلى أن الحزب الحاكم بصدد مواجهة حامية بين الصقور المحافظين، وبين الكتلة التي يقودها رئيس البرلمان معاذ بوشارب، والتي يدعمها وزير العدل الطيب لوح، الشخصية النافذة في الرئاسة، بما يهدد بدخوله في دوامة أزمة داخلية جديدة كتلك التي شهدها عام 2003، والتي امتدت حتى عام 2008، بسبب الصراع حينها بين كتلة رئيس الحكومة السابق علي بن فليس، وكتلة الأمين العام عبد العزيز بلخادم المدعوم من الرئاسة. لكن تداعيات الأزمة الجديدة تتوقف على قدرة مجموعة الرئاسة التحكّم في التناقضات القائمة والحسابات السياسية لكل طرف داخل الحزب الحاكم.

وفي هذا السياق، رأى المحلل السياسي رابح لونيسي، أن الأزمة الجديدة في الحزب الحاكم هي جزء من تداعيات الأزمة الصحية لبوتفليقة وغيابه التام عن المشهد السياسي في البلاد، ما فتح الباب لأكثر من طرف للحديث باسمه، بدليل الغموض حول الجهة التي أصدرت بيان استقالة ولد عباس. وأضاف "مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية، وفي غياب بوتفليقة، يظهر للعيان أن هناك أكثر من طرف داخل السلطة يحاول الإمساك بمقاليد الحزب، الذي يُنظر إليه دائماً كجهاز سياسي وآلة انتخابية، والصراع داخله يؤشر إلى غياب توافق بين الأطراف الفاعلة في السلطة ووجود انقسام في الرؤى حول الصيغة الممكنة للانتخابات المقبلة، بدليل تحمّس أطراف لفكرة ترشح بوتفليقة لولاية خامسة، وحديث البعض الآخر عن مفهوم الاستمرارية، والتي تعني استمرارية البوتفليقية وليس بوتفليقة بالضرورة".

في المقابل، يعتبر مراقبون أن التغييرات التي تحصل في الحزب الحاكم تؤكد أن الأخير يبقى بالنسبة للسلطة الحاكم مجرد جهاز سياسي أكثر منه متدخّلاً فاعلاً في صناعة القرار واختيار السياسات. وبحسب المحلل السياسي نبيل سوامي، فإن "الحزب وأمناءه العامين لم يكونوا في الغالب من الدائرة الفعلية للحكم والسلطة في الجزائر، وهذا يسهّل تغييرهم بشكل دوري، حتى من دون احترام الإجراءات الشكلية والقوانين الداخلية للحزب". ويبرز في السياق أن تغيير قيادات الصف الأول في الحزب الحاكم يأتي دائماً بقرارات كان يصدرها إما جهاز المخابرات الذي كان يتحكّم في مفاصل الحزب قبل عام 2003، أو الرئاسة لاحقاً منذ إمساك بوتفليقة بمقاليد الحزب، من دون أن تكون لقيادات الحزب وهيئاته القيادية أي إمكانية لإبداء موقف أو رأي إزاء هذه التغييرات. فبالطريقة نفسها تم تحييد الأمين العام الأسبق بوعلام بن حمودة عام 2001، وتعيين رئيس ديوان الرئاسة حينها علي بن فليس خلفاً له. وتم الانقلاب على بن فليس في أكتوبر/تشرين الأول 2003 بالطريقة نفسها وإزاحته من منصبه، ثم تعيين عبد العزيز بلخادم منسقاً ثم أميناً عاماً للحزب، قبل أن يتم الانقلاب عليه أيضاً عام 2012 وتنحيته بقرار من الرئاسة وتعيين عمار سعداني خلفاً له، ثم تنحية الأخير بشكل مفاجئ في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وتعيين ولد عباس خلفاً له.

الصراعات القديمة التي شهدها "جبهة التحرير الوطني"، ولعل أهمها تلك التي برزت عام 2003 بين الصقور المحافظين في الحزب، الذين يمثّلون الرموز التي عملت في الحزب منذ السبعينات، مثل عبد الرحمن بلعياط وعبد الرزاق بوحارة وصالح قوجيل، وبين جيل جديد من القيادات الشابة التي كانت تطمح إلى التقدّم في مناصب المسؤولية في الحزب، انتهت إلى بقاء الصقور المحافظين في التحكّم بمقاليد الحزب. ونجح هؤلاء في إدارة السلم السياسي للحزب، عبر ضبط قوائم مرشحي الحزب وإقصاء الكوادر الشابة من الترشيحات في الاستحقاقات النيابية والوزارات ومختلف المسؤوليات السياسية. ولم يفلت سوى عدد قليل من الشباب في الوصول إلى البرلمان ومجلس الأمة. كما قام المحافظون بتعيين عدد قليل من كوادر الجيل الشاب في مناصب قيادية في الحزب، كديكور سياسي تماشياً مع خطابات بوتفليقة التي تطالب بتسليم المشعل للشباب، بينما أخفق الأمين العام الأسبق للحزب علي بن فليس، ثم بعده عبد العزيز بلخادم، في تشبيب الحزب وإبعاد الصقور عن مناصب المسؤولية، وكان المحافظون ينجحون في كل مرة في تنفيذ انقلاب لصالحهم.
وفي عام 2014 برز صراع حاد بين قيادة الحزب ومجموعة من عُرفوا بالحركة التصحيحية، التي كانت تطالب بتنحية الأمين العام للحزب حينها عمار سعداني، لكن اللافت أن الطرفين كانا يستندان إلى شرعية سياسية تستند إلى بوتفليقة وتتحدث باسمه. غير أن ما زاد من تأزم الوضع مرض بوتفليقة منذ إبريل/نيسان 2013.